تنفيذ الأحكام الإدارية بالمغرب: أحكام رائدة وأبواب دستورية


2016-10-25    |   

تنفيذ الأحكام الإدارية بالمغرب: أحكام رائدة وأبواب دستورية

تطرح اشكالية تنفيذ الأحكام بحق إدارات الدولة والأشخاص العموميين إشكالات كبرى في عدد من الدول العربية. القاضي المغربي السابق يناقش هذه الإشكالية مقترحا عددا من الحلول التي قد تصلح في أكثر من دولة في المنطقة (المحرر).

لا يخفى أن تنفيذ الأحكام القضائية هو الهدف المتوخى من اللجوء إلى القضاء. فلا ينفع التكلّم بحقّ لا نفاذ له. كما أن عدم التنفيذ أو التأخير فيه يلحق ضرراً جسيماً بالمحكوم له، ويؤثر بالتالي على مصداقية الأحكام وعلى ثقة المواطنين في القضاء. وتكمن أهمية تنفيذ الأحكام القضائية في كونها أسمى تعبير من كل الأطراف المعنية عن دور القضاء، وفي ذات الوقت اعترافاً بحقوق المواطنين واحتراماً وتكريساً لحقوق الإنسان. وهذا ما أكده الملك محمد السادس، خلال ترؤسه لافتتاح أشغال دورة المجلس الأعلى للقضاء يوم 15 دجنبر 1999حيث أكد أنه: "من البديهي أنه لن يحقق القضاء هذا المبتغى إلا إذا ضمنّا لهيئته الحرمة اللازمة والفعالية الضرورية بجعل أحكامه الصادرة باسمنا تستهدف الإنصاف وفورية البت والتنفيذ، وجريان مفعولها على من يعنيهم الأمر".

وقد تطوّر مبدأ تنفيذ الأحكام إلى أن صار مبدأ دستوريا كرسه الفصل 126 من دستور المملكة بتنصيصيه على ما مؤداه: "يجب على الجميع احترام الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء". وفي الواقع لا قيمة للحماية القضائية بدون تحقق تنفيذ الأحكام النهائية، خاصّة منها الصادرة في مواجهة الهيئات العامة. ولا شكّ أن مرور ثلاث سنوات على المصادقة على الدستور الجديد لم يحُلْ دون تسجيل مواقف سلبية في حق الإدارة المطلوب التنفيذ ضدها وتفاوتها بين امتناعها الصريح عن التنفيذ وتراخيها فيه، مروراً بتنفيذها المنقوص لقوة الشيء المقضي به.

وهكذا أصبحت ظاهرة عدم تنفيذ الأحكام الإدارية تستأهل حلولاً ناجعة ومكرسة لمبدأ احترام أحكام القضاء الإداري وضرورة تنفيذها، لا سيما في ظل تطوّر القيم والمبادئ الديمقراطية في الدولة القانونية التي تعتبر الإدارة مثلها مثل الأفراد ملتزمة بتنفيذ الأحكام المكتسبة لقوة الشيء المقضي به.

وقد عزز القاضي الإداري دوره في مجال تنفيذ الأحكام الإدارية بناء على نظام وحدة القانون التي تقتضي تطبيق قواعد قانون المسطرة المدنية على الدعوى الإدارية من خلال مقاربة جديدة تعتمد القواعد العامة المتعلقة بالتنفيذ الجبري المسعفة في إجبار الإدارة على التنفيذ، ولاسيما الحجز على أموال الإدارة.

وقد أفرزت مختلف التطبيقات القضائية الإدارية حرص القاضي الإداري على اعتماد وسيلة الحجز وفقاً لشروط معينة من أجل إرغام الإدارة التي لا يخشى إعسارها على تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها. وقد اعتبرت الغرفة الإدارية بمحكمة النقض "أن المال المحجوز المرصود أصلا لتسديد التعويضات المحكوم بها …يقبل الحجز … وأن مسطرة الحجز لدى الغير تعدّ وسيلة من وسائل التنفيذ الجبري التي يمكن لكل دائن يتوفر على دين ثابت أو سند تنفيذي، استعمالها طبقا للشروط والمقتضيات الواردة بالفصل 488 وما يليه من قانون المسطرة المدنية … حتى يمكن المجادلة في حجية الشيء المقضي به".

وقد تواترت الإجتهادات القضائية الإدارية في هذا الاتجاه. وقد أكدت هذه الإجتهادات "أنه إذا كان لا يجوز الحجز على الأموال العامة للدولة والأشخاص الإعتبارية العامة باعتبار أن الحجز والتنفيذ عليه من شأنه أن يعرقل ويعطل وظيفة النفع العام الملقاة على عاتقها، فإنه استثناءً من ذلك يجوز الحجز على الأموال الخاصّة لأشخاص القانون العامّ متى كان الحجز بحسب تقدير السلطة القضائية المقررة للحجز ليس من شأنه عرقلة سير المرفق العمومي أو تعطيل خدمات جمهور الناس به أو متى تم رصد الأموال للتنفيذ ولسداد التعويضات المعنية بالأحكام". حتى مع تعلق محل هذا الحجز بمال مودع بين يدي القباضة الجماعية على أموال الجماعة المعنية بالتنفيذ مادام أن مقتضيات المادة 88 من المرسوم رقم 441-09-2 الصادر بتاريخ 3 يناير 2010 بسن نظام للمحاسبة العمومية للجماعات المحلية ومجموعاتها تجيز إجراء الحجز بين يدي الخزنة أو القباض الجماعيين، دون غيرهم من المؤسسات تحت طائلة البطلان، خلافا للإجتهاد القضائي الذي كان ينفي صفة الغير على القباضة المودع بين يديها مال الجماعة المحجوز عليها. ولا يعتدّ بالتالي بمثل هذا الحجز لمجرّد أن المحجوز بين يديه ليس من فئة الغير بمفهوم الفصل 488 من قانون المسطرة المدنية. وتبقى الحلول التي اهتدى إليها القاضي الإداري لإجبار الإدارة على تنفيذ أحكامه محدودة لعدم اقترانها بآليات قانونية كفيلة بإجبار الإدارة على التنفيذ. وتفريعا عن ذلك، فإن أي مقاربة قانونية لإشكالية تنفيذ الأحكام الإدارية والحلول تقتضي أولا إزالة كل أشكال الشطط والتعسف المنافية للشرعية والقانون بالتزام الإدارة صحيح القانون في قراراتها وأعمالها الإدارية والمادية، وثانيا استحضار المرتكزات الدستورية لإشكالية تنفيذ الأحكام الإدارية باعتبارها مدخلا لأي معالجة تشريعية لاحقة:

– أن التنفيذ عملية قانونية وقضائية يستقل بها القضاء الإداري ويختص بها دون غيره ، ويحظر تدخل أي جهة كيفما كانت في إجراءاته.

– أن التنفيذ يتضمن في طياته نهاية المنازعة القضائية الإدارية، وأن القاضي الإداري مدعو إلى السير بإجراءاته إلى نهايتها، تقيدا منه بقوة الشيء المقضي به.

– خضوع الجميع إدارة ومواطنين لقوة الشيء المقضي به طبقا لمبدّأ المساواة أمام القانون والقضاء.

– وجوب امثتال الإدارة بقوة القانون لقوة الشيء المقضي به، تحت طائلة إخضاعها لطرق التنفيذ الجبري المتوافقة مع طبيعتها.

– التنفيذ داخل الأجل المعقول. فإذا كانت إجراءات المحاكمة والبت تخضع للأجل المعقول طبقا لما أقره الدستور، فإن هذا الأمر ينطبق من باب أولى بشأن تنفيذ الأحكام، تيسيرا على المنفذ له في الحصول على حقه بسرعة.

– عدم جواز فرض أو سلوك إجراءات إدارية أو قضائية تعيق التنفيذ أو تشل فعاليته من خلال الاستشكالات في التنفيذ غير الجدية أو الكيدية.

– عدالة التنفيذ بإجراءات منصفة وفعالة وسريعة، ومرنة وغير مكلفة ماديا ومعنويا للخصوم.

وعلى هذا الأساس، يكون المشرع مدعوا إلى التدخل لسن قواعد قانونية واضحة المعالم وفقا لما أقره مشروع قانون المسطرة المدنية تفعيلا للمقتضيات الدستورية المؤكدة على عدم المساس بحجية أحكام القضاءالإداري ودعم مصداقية أحكامه، وذلك من خلال:

– إصدار قانون خاص بالإجراءات الإدارية مستقلا عن قانون المسطرة المدنية في أفق إحداث المحكمة العليا الإدارية، وتخصيص باب مستقل بتنفيذ الأحكام الإدارية.

– تفعيل دور مؤسسة قاضي التنفيذ في مجال تنفيذ الأحكام الإدارية مع اضطلاع كل محكمة إدارية بتنفيذ أحكامها، وبواسطة المفوض القضائي المختار في حالة وقوع التنفيذ خارج الدائرة القضائية للمحكمة التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه.

– تمكين المنفذ له من اختيار المحكمة المراد التنفيذ في دائرتها بالنظر لوقوع الشيء المحل التنفيذ، وفك الارتباط بين المحكمة المصدرة للحكم وجهة التنفيذ.

– التنصيص على المسؤولية الشخصية للموظف العمومي الممتنع عن تنفيذ الأحكام الإدارية بدون وجه حق.

– إقرار مسؤوليته التأديبية.

– إقرار مسؤولية الموظف الجنائية وفقا لما قرره مشروع قانون المسطرة المدنية، والمادة 308 من مسودة القانون الجنائي التي جرمت عدم تنفيذ الأحكام أو التسبب في التأخير في تنفيذها في خطوة مهمة ورائدة تبتغي ضمان فعالية جدية في إلزام المنفذ عليهم كانوا أشخاص ذاتيين أو معنويين في تنفيذ قوة الشيء المقضي به والانصياع جبرا للأحكام القضائية باعتبارها عنوان الحقيقة.
ولا شك أن تفعيل نظام المسؤولية بمختلف تصوراتها وتمظهراتها عن عدم التنفيذ يمثل تخفيفا لأعباء مالية إضافية عن الإدارة عندما يثبت أن سبب الإمتناع عن التنفيذ موقف شخصي صرف.

– نشر القرار الإداري التأديبي أو الحكم القاضي بتطبيق جزاءات مالية ضد الممتنع عن تنفيذ حكم إداري  ،في جريدة وطنية أو أكثر.

– اعتبار الحكم الذي يلزم مالية الإدارة بمثابة أمر بالأداء ملزم لميزانية الإدارة المعنية بالتنفيذ باعتباره من الوثائق المحاسباتية المقبولة للدفع مع وجوب تضمن هذه الميزانية لبند خاص بتنفيذ الأحكام الإدارية وفقا لما قرره مشروع قانون المسطرة المدنية .

ولقد كان من نتائج التكريس الدستوري لمبدأ تنفيذ الأحكام، وإقراره لمسؤولية الدولة في تطبيق القوانين، أن أصبح الوزراء دستوريا مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به، وفي إطار التضامن الحكومي (الفصل 93) تحت إشراف رئيس الحكومة باعتباره صاحب السلطة التنظيمية (الفصل 90). وإذا كان رئيس الحكومة يمثل الدولة أمام القضاء، فإن عدم توفر ميزانية رئيس الحكومة على اعتمادات مالية من أجل تنفيذ الأحكام،يطرح إشكالاً حقيقياً في غاية الأهمية والخطورة في نفس الوقت بالنسبة للأحكام القاضية على الدولة مباشرة بأداء مبالغ مالية، من جهة تحديد الجهة المخاطبة بالتنفيذ، والحساب المالي المرصود له،لاسيما أمام تعاظم دور مؤسسة رئاسة الحكومة واستقلالها عن باقي الوزارات ماليا وإداريا، وتمتعها بالشخصية المعنوية مثلها مثل رئاسة الحكومة. ومن المهم الإشارة أن عدد ملفات التنفيذ ضد الدولة التي تتطلب حلا عاجلا لمواجهتها صارت مرتفعة جدا بشكل لا يتصور، لاسيما وأن المستفيدين من هذه الأحكام ما فتئوا يتقدمون بطلب لتحرير محاضر امتناع في مواجهة الدولة في شخص رئيس الحكومة. لذلك يقتضي إيجاد حلول عاجلة للتنفيذ، وتوفير ميزانية بهذا الخصوص،لأنه لا قيمة للأحكام بدون تنفيذ، ولا قيمة لدولة الحق والقانون بدون حماية فعالة لحقوق المواطنين بالوصول إليها وتنفيذها بسرعة ويسر وفي أقرب الآجال.

وهكذا فإن الإدارة ملزمة قانونا ودستوريا بالخضوع إراديا وتلقائيا للقاعدة القانونية بمفهومها الواسع ما دام تفعيل مفهوم العدالة الإدارية يستند إلى إجبارية خضوع الإدارة تلقائيا وبحسن نية لمبدأ الشرعية الدستورية، ليس فقط سلبا، بالاستنكاف عن مخالفة ما قرره القضاء، بل كذلك إيجابا بالعمل على اتخاذ جميع الإجراءات والتدابير اللازمة لتنفيذ قوة الشيء المقضي به.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، المغرب ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني