المدرسة الرسمية… التوظيف أولى من التعليم


2017-10-17    |   

المدرسة الرسمية… التوظيف أولى من التعليم

واجه التعليم الرسمي  في لبنان منذ انطلاقته العديد من المشاكل التي أضعفته، وجعلته في مواجهة المدارس الخاصة الخيار الأخير. بكلام آخر، عموماً يتفادى الأهل قدر الإمكان تعليم أولادهم في المدرسة الرسمية، ولا يلجؤون إلى هذا الخيار سوى في حال عدم قدرتهم على تغطية تكاليف المدارس الخاصة. يرتبط هذا الإتجاه بوجود نظرة سلبية تجاه مستوى التعليم في المدارس الحكومية وجديته. هذه النظرة لم ترافق المدرسة الرسمية منذ بدايتها، ولم تكن بنفس الإنتشار خلال كل العقود الماضية. لكن، عوامل عديدة أدت إلى تراجع الإقبال على التعليم الرسمي، وبوتيرة مستمرة.

69 ألف تلميذ تركوا التعليم الرسمي خلال 6 سنوات

تظهر إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء التابع لوزارة التربية أن عدد التلاميذ الملتحقين بالمدارس الرسمية قد انخفض خلال 6 سنوات، تحديداً بين عامي 2003 و2010، من 348.144 إلى 279.119 تلميذ. وقد استمر العدد الإجمالي للطلاب المنتسبين إلى التعليم الرسمي بالإنخفاض حتى عام 2015، ولكن بوتيرة أضعف. فقد كان مجمل عدد التلاميذ لهذا العام 314.726، وهو يقل عن عددهم في سنة 2003 بـ 33.418  ويزيد عن عددهم في سنة 2010 بـ 35.607.

جدول رقم (1)

يبدو لافتاً أن التراجع في عدد التلاميذ المنتسبين إلى المدرسة الرسمية، لا يقابله إرتفاع موازٍ في عدد التلاميذ المنتسبين إلى التعليم الخاص. وهو ما يدفع إلى التساؤل عن حجم التسرب الدراسي الحاصل، ومدى ارتباطه بالنظام التعليمي داخل المدارس الرسمية.

هذا وتجدر الإشارة الى أن إختيار السنوات لرصد كيفية تبدل عدد التلاميذ يأخذ في عين الإعتبار تأثير اللجوء السوري.

جدول رقم (2)

يظهر الجدول الأخير رقم (2) أن عدد التلاميذ السوريين المنتسبين إلى المدارس الرسمية قد ارتفع حوالي 43 ألف بين 2010 و2015. وهو رقم يتخطى الزيادة الحاصلة في إجمالي عدد التلاميذ المنتسبين إلى التعليم الرسمي بحوالي 8 آلاف تلميذ. بالمقابل، يظهر ان عدد التلاميذ اللبنانيين زاد في المدارس الرسمية حوالي 5 آلاف تلميذ في المرحلة نفسها.

وإذا ما أخذنا في عين الإعتبار أن الإقبال على التعليم الرسمي في منطقة شمال لبنان هو الأكثف خلال العقدين الماضيين، يمكن الإنتهاء إلى استنتاجين:

  • أن اللجوء إلى المدارس الرسمية في لبنان في تراجع مستمر وكبير. ولا يحدّ من هذا التراجع إلا زيادة أعداد الفقراء الذين لا يستطيعون تحمل أعباء المدارس الخاصة. وهو ما يسمح بالقول بأن المدرسة الرسمية هي في الأغلب خيار إقتصادي لذوي الدخل المحدود والفقراء، وليس بأي حال خياراً يتوخى مستوى معين من التعليم،
  • أن اللجوء السوري ليس عنصراً مؤثراً على تراجع انتساب التلاميذ اللبنانيين إلى المدرسة الرسمية. فمن الثابت أن عدد التلاميذ اللبنانيين تراجع خلال الفترة السابقة للجوء، فيما زاد، ولو زيادة طفيفة، في فترة 2011-2015.

إنفاق على التعليم خارج المدرسة الرسمية

يعتبر د.علي خليفة من كلية التربية في الجامعة اللبنانية أن مشكلة التعليم الرسمي ترافقت مع مرحلة انطلاق تثبيته. فمرحلة الإستقلال كانت “المرحلة الذهبية” للتعليم الرسمي، حيث برزت “مساع جدية من قبل الدولة وقتها لتأمين التعليم للجميع واجتذبت المدارس الرسمية عددا هائلا من التلاميذ”. لكن هذه الانطلاقة واجهتها الطوائف بعدما شعرت أن “دورها سيتحجم، وهي لا تستطيع مواكبة الدولة في مجال التعليم لا سيما بعد توحيد أجور أساتذة القطاع العام والقطاع الخاص”. يضيف خليفة “إزاء هذا الضغط طُلب إلى الدولة أن تحد من اندفاعها لرعاية التعليم الرسمي أولاً. وثانياً أن ترعى المدارس الخاصة فنشأت المدارس الخاصة المجانية وهو توجه يتفرد به لبنان”.[1]

بالعودة إلى إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء، يظهر أن عدد التلاميذ في المدارس الخاصة المجانية هو حوالي نصف عدد التلاميذ في المدارس الرسمية (جدول رقم 1). فيما تبين هذه الإحصاءات أن عدد المدارس الخاصة المجانية لا يتجاوز 13% من مجموع عدد المدارس في لبنان، يقابلها 44.2% للمدارس الرسمية و40.5 مدارس خاصة.[2] وهذه الأرقام تؤدي إلى طرح اشكاليتين:

  • قدرة المدارس الخاصة المجانية على استيعاب هذه الأعداد من التلاميذ وتقديم تعليم جيد لهم.
  • لماذا تقوم الدولة بالإنفاق على هذا العدد الكبير من التلاميذ في المدارس الخاصة المجانية فيما تستطيع أن تحدث وفراً لهذه الناحية لو ألغت هذا الشكل من المؤسسات التعليمية ووجهت التلاميذ إلى مدارسها؟

يوضح الأستاذ في سوسيولوجيا التربية والعلوم التربوية عدنان الأمين  في حديث مع المفكرة، أن المدارس الخاصة المجانية “نشأت في آخر الستينيات. وقتها لم تكن الدولة قادرة على إستيعاب الطلب الكبير على التعليم الرسمي”. وبهدف تدارك هذه الحاجة، “بادر القطاع الخاص، فمن جهة يحصل على دعم الدولة ومن جهة ثانية إن كلفة دعم هذه المدارس أقل من كلفة إنشاء مدارس”. غير أن الحاجة إلى هذه المدارس، وفقاً للأمين، “انتفت منذ زمن، فوجدنا مثلاً منذ أربع سنوات ثانويات رسمية فارغة، وقتها أصدر وزير التربية قراراً بتسكيرها”.

إنفاق الدولة على المدارس الخاصة المجانية، يشكل مثالاً بارزاً على سياسة الدولة التربوية غير الحريصة على التعليم الرسمي.

علّة المحسوبية

كيفية توجيه النفقات في مجال التعليم ليس العلة الوحيدة. فيجد كل من الأمين وخليفة أنه تم تحويل المدرسة الرسمية إلى مكان لكسب المنافع، بشكل خاص من خلال الإعتماد على تعيين الأساتذة بأسلوب التعاقد. يقول خليفة أن “التعيين بالتعاقد الوظيفي أدى إلى وضع التعليم الرسمي بين أيدي من لم تعده كليات التربية المختصة، فيما يذهب الأساتذة الذين تنفق الدولة على إعدادهم في كليات التربية للتعليم إلى المدارس الخاصة”.

وكلية التربية تلعب دوراً ضرورياً في ما يتعلق باعداد الأساتذة وذلك على صعيدين أساسيين: “الإختصاص والكفاية التربوية”. بهذا المعنى “لا يكفي أن يحوز معلم الرياضيات على إجازة في الرياضيات، بل يجب أن يملك طرائق تعليمها ونقل مهاراتها للطلاب”.

يلاحظ من مراجعة إحصاءات المركز الوطني للبحوث والإنماء أن عدد المعلمين في المدارس الرسمية لعام 2015-2016 هو 42686، وهو يشكل حوالي 40% من مجمل عدد الأساتذة في لبنان. من بين هؤلاء، فقط 5278 يحملون بكالوريا تعليمية، و1236 يحملون شهادة كفاءة من كلية التربية. بالمقابل، يوجد بينهم 6 لا يحملون أي شهادة و130 أنهوا تعليمهم المتوسط فقط. أما العدد الأعلى من الأساتذة في التعليم الرسمي فهم من حاملي الإجازة الجامعية، وعددهم 15826.

بالعودة إلى التعاقد في التعليم الرسمي، يقول الأمين أن المشكلة ليست في التعاقد بحد ذاته، بل بما أنتجه في ظل القوانين الصادرة منذ عام 2001. أولها قانون “إعفاء بعض الناجحين في مباراة 1987 لقبول طلاب في كلية التربية لإعداد شهادة الكفاءة من شرطي السن والمباراة”. وقد تلته القوانين رقم 344/2001 و386/2001 و442/2001 المتعلقة بتعيين المعلمين في التعليم الإبتدائي والمتوسط. وخلاصة هذه القوانين أنها ألغت شرط الإعداد التربوي والعمر وفتحت الباب أمام حملة الإجازة ومن لا يحمل الإجازة في الوقت نفسه وحصرت التعيين بالمتعاقدين مع الخضوع لدورة تدريبية بعد التعيين.[3]

هكذا، بات دخول المعلمين إلى المدارس الرسمية وفقاً للامين “يتم من خلال عقود وليس من خلال التخرج من مؤسسة إعداد. وهو ما يكرس أسلوب الوساطة والمحسوبيات وزيادة بعدد الأساتذة من دون حاجة تحت شعار تنفيع المؤيدين السياسيين. وهو ما ينتج بعد بضع سنوات “إضرابات تؤدي إلى تثبيت هؤلاء المتعاقدين، وإخضاعهم لدورات إعداد شكلية في كلية التربية”.

الدولة تروج للتعليم الخاص

يتضح إذن من مجمل ما تقدم أن العوامل الأساسية التي تؤثر على واقع المدرسة الرسمية هي الآتية:

  • “سياسة زبائنية” تسيطر على التوظيف في المدارس الرسمية تؤدي إلى تدهور الثقة بالتعليم الرسمي.
  • توجيه الإنفاق في قضايا التعليم لدعم التعليم الخاص على حساب الرسمي، وذلك من خلال أوجه عديدة أبرزها:

– الإنفاق على المدارس الخاصة المجانية بدلاً من الإستثمار في تحسين واقع التعليم الرسمي.
– الإنفاق على منح لتعليم أبناء الموظفين والمعلمين والقضاة في المدارس الخاصة.
– عدم الاستفادة من كفاءة خريجي كلية التربية في التعليم الرسمي، بعد الإنفاق على تعليمهم وتدريبهم، ما يؤدي إلى توجههم إلى التعليم الخاص.

نشر هذا المقال في العدد | 51|أيلول 2017، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :

“أقساط المدارس على أنقاض المدرسة الرسمية”


[1] – يمكن في هذا المجال مراجعة : سامر غمرون : المعركة التربوية الكبرى في الخمسينيات: لما إتهمت المدارس الخاصة بتشكيل دولة ضمن دولة”، المفكرة القانونية، 16/11/2016
[2] – تفصل الإحصاءات بين المدارس الخاصة والمدارس الخاصة الفلسطينية.
[3] – عدنان الأمين: “المشاع السياسي في التعليم الرسمي”، النهار، 28 نيسان 2015.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني