يشهد لبنان منذ أيام مناوشات على مواقع التواصل الاجتماعي على خلفية سماح الرقيب بعرض مسرحية “وما طلت كوليت”، وهي مسرحية مقتبسة من الانتهاكات التي تعرض لها الممثل زياد عيتاني على خلفية ملاحقته بالتعامل مع إسرائيل.

للتذكير، تم القبض على الممثل وتعذيبه وتسريب التحقيقات معه بتواطؤ بين جهاز أمني (أمن الدولة) وعدد من الإعلاميين والمحامين. وقد تم كل ذلك في أجواء احتفالية بهذا الجهاز الذي تم تظهير نجاحه في تفكيك خلية عمالة، يشكل عيتاني إحدى حلقاتها البارزة. وبعد مضي أربعة أشهر من التعذيب وتشويه السمعة والعزل، اتضح أن عيتاني كان ضحية قرصنة على صفحته أدت إلى نسب أمور له هو براء تماما منها، وأن هذه القرصنة حصلت انتقاما منه على خلفية نقده لمسؤولة أمنية سابقة هي الرائدة سوزان الحاج التي كانت تشغل منصب رئيسة مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية. وفيما ثبتت براءة عيتاني بعد مخاض طويل، تم الادعاء على الرائدة الحاج وشريكها على خلفية اختلاق جرائم بحق عيتاني، وهما اليوم قيد المحاكمة.

رغم أن هذه الحادثة سببت صدمة قوية في أوساط الرأي العامّ وكشفت عيوبا كثيرة لدى الأجهزة الأمنية والقضاة والإعلام، فإن خاتمة الأمور أظهرت أنها طويت تماما مع الإدعاء على الرائدة الحاج، من دون أن يجد أي مسؤول حاجة لاتخاذ أي اجراء تأديبي أو جزائي بحق أي من المتسببين بمعاناة عيتاني. وعليه، بقي الجهاز الأمني الذي ارتكب أعمال تعذيب بمنأى عن أي مساءلة، على الرغم من صدور قانون بمعاقبة جرائم التعذيب في السنة نفسها. كما بقي الإعلام بمنأى عن أي محاسبة جدية، وإن تحلى بعضه بشجاعة النقد الذاتي. أما قضاة المحكمة العسكرية الذين أبقوا عيتاني في عزلة لفترة قاربت شهرا كاملا، وانكفؤوا عن اتخاذ أي إجراء رغم معاينتهم أعمال التعذيب، فإنهم هم أيضا لم يتعرضوا لأي ملاحقة.

الأخطر من ذلك أن الدولة لم تقم بأي عمل لجبر ضرر الضحية، بل أبدى كثيرون منهم تحفظا لئلا يؤدي الدفاع عنها أو التعاطف معها إلى الإساءة إلى الجهاز الأمني الذي تولى التحقيق معه. فبدا كأنما ثمة إخراجا رسميا (شارك فيه قاضي التحقيق الأول رياض أبو غيدا ووزير الداخلية نهاد المشنوق) لمنح إبراء مستحيل لأمن الدولة، رغم انكشاف براءة عيتاني من دون لبس.

على خلفية هذه الظروف، وإذ حصل عيتاني على موافقة الرقيب الأمني (المديرية العامة للأمن العام) على عرض المسرحية في أواخر شهر تشرين الثاني، وتحديداً في ذكرى اعتقاله في 23 تشرين الثاني 2017، صدرت مواقف سلبية عن وسائل إعلامية وسياسيين تدعو الأمن العام إلى التراجع عن إجازة العرض صونا لسمعة جهاز “أمن الدولة” أو تعتبر هذه الإجازة بمثابة استهداف للجهاز المذكور. أسوأ هذه المواقف جاءت على لسان النائب زياد أسود الذي لم يكتفِ بالدفاع عن سمعة الجهاز المرتكب، إنما ذهب حدّ التهجم على الضحية وتكرار الاعتداء عليها. وهذا ما نقرؤه بوضوح في تغريدة نشرها على صفحته على “تويتر”:

“إلى عيتاني man توقيف المحقرين والشتامين ينص عليه القانون وهو حق للمتضرر. أما إخلاء العملاء والتمثيل في التحقيق بسيناريو وإخراج سيء هو وصمة على القضاء. في أيام زمان كنا شرفاء نوقف بتهمة عمالة أما أنت فعميل بدرجة ممثل فاشل.

تغريدة أسود جاءت عقب مقال تحريضي نشره موقع “ليبانون ديبايت” تحت عنوان “من أعطى الضوء الأخضر لضرب جهاز أمن الدولة؟” دعا فيه كاتب المقال إلى توقيف عرض المسرحية فوراً لأنها تهاجم جهازا أمنيا. وقد اعتبر الكاتب أنه تمّ إعطاء الضوء الأخضر للأمن العام للسماح “بالتهجم على جهاز أمني” وهو ما “ينذر بعواقب وخيمة في العلاقة بين الأجهزة الأمنية في حال لم يؤخذ القرار بوقف عرضها فورا”ً.

وحدها النائبة بولا يعقوبيان دافعت عن عيتاني وعن حقه بعرض العمل، فغردت على “تويتر” قائلة: “من المعيب أن ينال عمل موافقة من الرقابة فيواجه برسائل من النوع المخابراتي الإعلامي. مسرحية “وما طلت كوليت” حق لزياد بأن يرد الظلم بطريقته وحق للناس بمعرفة الحقيقة في بلد يمتهن بعض سياسييه التضليل والكذب وقلب الحقائق”.

مع استعادة تحفظاتنا بخصوص الرقابة المسبقة على المسرح، تستدعي هذه الأمور الملاحظات الآتية:

أولا، أن الإجازة الممنوحة من الأمن العام عكست موقفا متميّزا لهذا الجهاز، مقارنة بأعماله السابقة في مجال الرقابة المسبقة[1]. ففيما كان الأمن العام يشترط مراعاة الحساسيات الأمنية والسياسية والاجتماعية لمنح الإجازة بعرض أعمال فنية (سينمائية أو مسرحية)، بدا في هذه الحالة وكأنه يغلّب حرية التعبير (الاعتراف بحق الضحية بسرد معاناتها في الفضاء العام) على صون هيبة الأجهزة الأمنية. ربما يكون هذا التوجه معزوا لفداحة الضرر الذي تكبده عيتاني أو هول الخطأ المرتكب من جهاز أمن الدولة (تعذيب لانتزاع اعتراف مع تسريب معلومات)، وقد يكون معزوا لأسباب خاصّة بالأمن العام في علاقته مع أمن الدولة كما أوحى به البعض، لكن المؤكد أنه يمهد لإرساء معايير وقواعد أكثر اتّزانا ومراعاة لحرية الفن والإبداع وبشكل أعم حرية التعبير والاعتبارات الانسانية والحقوقية، أو أقل تحسسا إزاء المس بسمعة الجهات النافذة، وبالأخص الأمنية والسياسية منها. ويبدو هذا الموقف منسجما إلى حد كبير مع توجهات العديد من قضاة الأمور المستعجلة في مجال حرية التعبير، والذين احتكموا لمبادئ الضرورة والتناسب والموازنة بين المصالح المرتبطة بحرية التعبير وحماية حق بالسمعة والشرف، وعمدوا في الغالب إلى تغليب الأولى على الثانية كلما استشفوا مصلحة عامة تبرر التضحية بهذا الحق،.

ثانيا، أن ردود الأفعال على منح هذه الإجازة والتي صدر بعضها عن إعلاميين وبعضها عن سياسيين أظهرت على العكس من ذلك انهيارا مقلقا في القيم في هذا المضمار. فعدا عن أن هؤلاء أبدوا على عكس الرقيب الأمني ميلا إلى تغليب اعتبار سمعة الجهاز الأمني على أي اعتبار حقوقي مهما بلغت أهميته، فإنّ بعضهم ذهب حدّ الاعتداء مجددا على الضحية بهدف ترويعها وإسكاتها. فكأنما يعتقدون أن بإمكانهم استباحة حقوق المواطنين والتضحية بها على مذبح المصالح السياسية التي يرتبطون بها، من دون أي رادع. وانهيار القيم على هذا النحو إنما يشكل دليلا على النتائج السلبية للتسويات والمجاملات التي غالبا ما تنتهي إلى العفو عن الجميع، من دون أي محاسبة أو مساءلة.

ثالثا، في ظل الهجمة المذكورة، وإذ يؤمل أن يثبت الأمن العام على موقفه، يبدو نجاح عيتاني في عرض هذه المسرحية منعطفا هاما لتوثيق مظلمة يجب ألا تمرّ من دون أن نتعلم منها، مظلمة تصلح كمدخل لبدء ورشة إصلاح شامل في المنظومة القضائية الأمنية.

 


[1] نزار صاغية ونائلة جعجع ورنى صاغية. أعمال الرقابة قانونا: تحرك من أجل اعادة النظر في قوانين الرقابة في لبنان. بيروت، 2010.