التعددية والحريات الدينية في المشرق العربي


2013-10-23    |   

التعددية والحريات الدينية في المشرق العربي

إنّ اندماج مسيحيي المشرق العربي لن يتم بدون تحقيق انتقال ديمقراطي في الشرق الأوسط لما فيه من احترام للتعددية والحريات الدينية ولمبدأ المواطنة، بينما استمرار الأنظمة الديكتاتوريةسيؤدي حتما إلىالموت البطيء أو لانعدام وجودهم، كما تشهد على ذلك العقود الماضية من خلال التناقص الكبير في أعداد المسيحيين. بالتأكيد هذا الانتقال الديمقراطي يواجه العديد من التحديات: أهمها تأثير الدين والعادات والتقاليد الموروثة على كافة الأصعدة القانونية والسياسية والاجتماعية، فضلاً عن قيام أنظمة الاستبداد العربية على مدار عقود في بث التخلف والفرقة بين أبناء البلد الواحد وتغييب ثقافةالمواطنة وحقوق الإنسان والحياة السياسية من أجل إجهاض أي مشروع ديمقراطي.
 
قبل أن أتطرق بشكل تفصيلي إلى القوانينوالانتهاكات المتعلقة بمسألة التعددية والحرية الدينية،سأتكلم عن بعض السمات العامة ذات الصلة، في بلدان المشرق العربي أي في كل من مصر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق.

على عكس المغرب العربي، تتسم بلدان المشرق العربي بتنوعها الديني الشديد فهي مهد الديانات الابراهمية الثلاث، ويمكن أن نميز فيها بين نوعين من المكونات أو الأقليات الدينية:

أولاً: الأقليات التي تختلف عن الأغلبية بتفسيرها للتشريع الإسلامي (الشيعة والدروز والإسماعليين والأزيديين…).

ثانياً: المنتمون إلى غير الديانة الإسلامية كالمسيحيين واليهود والبهائيين.
وهناك بالتأكيد من يتبع لأكثر من أقلية بنفس الوقت كالكردي المسيحي أو حتى السرياني، الأمر الذي يمكن أن يعرضه لنوعين من التمييز على أساس الدين بصفته غير مسلم وكذلك على أساس الأثنية التي ينتمي إليها بصفته غير عربي (التمييز المزدوج double discrimination).
ومن بين هذه الأقليات، ما هو معترف به بشكل رسمي وما هو محظور كشهود اليهوى والبهائيين، فيتبع هؤلاء في أوراقهم الثبويتة الشخصية للديانات المعترف بها بخرق واضح لمبدأ الحرية الدينية. وتمتاز اذاً دول المشرق العربي، كما بقية دول العالم العربي، بفرض الدين على جميع مواطنيها وفي هذا انتهاك واضح لمبدأ الحرية الدينية الذي يشتمل بالضرورة على:حرية الإيمان أو عدم الإيمان، حرية الانتماء أو عدم الانتماء إلى دين أو طائفة معينة وبالتأكيد حق تغيير الدين. وبالتالي يمكننا التمييز بين فئة أولى من الأشخاص وهم الأشخاص المؤمنون المتدينون سواء من المسلمين أو من غير المسلمين، والفئة الثانية من غير المؤمنين والذين تعاملهم دولهم على أنهم منتمون إلى ديانة معينة وبالتالي تُطبّق عليهم في مجال الأحوال الشخصيةقوانين دينية لا يؤمنون بها.

من الناحية التشريعية:لقد كانت الشريعة الإسلامية وحتى وقت قريب معمولا بها في المشرق العربي، وبالتالي كان يطّبق ما يُعرف بنظام الذمة على أهل الكتاب وخاصة اليهود والمسيحيين. ونظام الذمة يتضمن على بعض القيود بحق غير المسلم وخاصة وجوب دفع الجزية، ولكن في نفس الوقت له بعض المزايا ومنها تأمين الحماية إلى حدّ ما، وهو ما أتاح لاستمرار الوجود المسيحي حتى وقتنا هذا في البلاد ذات الغالبية المسلمة. ويمكن القول بأنّ هذا النظام يتسم بنوع من التسامح، ولاسيما إذا ما وضعنا الأمور في نصابها التاريخي وقارنا وضع الأقليات المسيحية بأقليات دينية أخرى كانت تعيش في أوروبا كالبروتستانتية التي عانى أتباعها من مجازر جماعية. أمّا اليوم فإنّ نظام الذمة هذا غير معمول به وأغلب القوانين المطبقة في هذه البلدان هي وضعية تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن القوانين التي كانت تطّبقها دول الاحتلال أو الانتداب، وهي بالتالي قوانين قائمة على المساواة بين المواطنين من دون أي تمييز على أساس الدين أو حتى الجنس، ومع ذلك لا تزال بعض التشريعات السيئةالموروثة من نظام الذمة هذا مطبّقة كما سنبينه في هذه المداخلة.

 يبرز تأثير الدين في هذه الدول بشكل خاص على الدساتير التي ينصّ أغلبها على أن الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع أو حتى المصدر الرئيسي أحياناً[1]. ويبرز أيضاً في مجال الأحوال الشخصية المستقاة من التشريعات الكنسية بالنسبة للمسيحيين، بينما يحتكم المسلمون إلى ما هو مستمد من شريعتهم الإسلامية وخاصة المذهب الحنفي والحال كذلك بالنسبة لأتباع الطائفة الدرزيةوحتى الجعفرية في بعض الدول.بالإضافة إلى هذه التشريعات، يحق غالباً لغير المسلمين اللجوء إلى محاكمهم الخاصة، عدا مصر التي ألغت المحاكم الدينية لغير المسلمين بمقتضى قانون رقم 462 لعام 1955 ولكنها أبقت على التشريعات الكنسية التي تطبق فقط في حالات معينة.

صحيح أنّ هذا النظام القانوني التعددي في مجال الأحوال الشخصية قد أتاح في غالب الأحيان لغير المسلمين وخاصة المسيحيين بتجنب تطبيق الشريعة الإسلامية عليهم على عكس تجارب بعض الدول الأخرى كالسودان، إلا أنّ مساوئ هذا النظام عديدة: كتطبيق التشريعات الدينية على غير المؤمن بالديانتين الإسلامية أو المسيحية كالعلماني مثلا أو حتى البهائي وغيره من المنتمين إلى أقليات دينية غير معترف بها رسمياً.ويُضاف إلى ذلك ما تسببه هذه التشريعات الدينية من تكريس للطائفية ولسيطرة المؤسسة الدينية على المجتمعات، وكذلك تفكك المجتمع نتيجة لتطبيق قوانين مختلفة على أبناء الدولة الواحدة وزعزعة الاستقرار القانوني وانتهاكات أخرى لحقوق الانسان كما سنبينه.

يبرز الانتهاك لمبدأ الحرية الدينية والمساواة بين المواطنين خاصة في إطار القضايا المختلطة، وذلك باستثناء لبنان الذي يتبع غالباً مبدأ المساواة أمام القضاء بين المسلمين وغير المسلمين، وان اتسمت تشريعاته بالتمييز ضد المرأة. تُعطى حضانة الطفل للطرف المسلم في النزاعات القضائية، دون الاكتراث بمصلحة الطفل، حيث تُحرم الأم غير المسلمة من هذا الحق إذا "خُشي أن يألف الطفل غير دين أبيه المسلم أو حتى المعتنق للإسلام لغاية معينة منها إسقاط الحضانة عن زوجته". الأمثلة كثيرة ومنها ما ذهبت إليه أيضاً محكمة البداية الشرعية في الإسكندرية في قضية زغبي حلاق عندما أعطت الحضانة للأب المسيحي بعد اعتناقه للإسلام وذلك خشيةً على دين طفلته من والدتها المسيحية. وعلى الرغم من اعتراض الكنيسة المصرية على هذا الحكم متذرعة بأنّ الطفلة وٌلدت وتربت كمسيحية، إلا أنّ المحكمة الشرعية أشارت بأنّ الطفلة التي تجاوزت من العمر الثماني سنوات يمكن أن تتأثر بالدين المسيحي لوالدتها والتي يمكن أن تعلّمها "الكفر" على حدّ تعبير القاضي. غالباً ما تُدرج المحاكم الشرعية في أحكامهاوجوب تبعية الطفل لأشرف أو لأفضل الوالدين ديناً،وهو ما قررته المحكمة الشرعية بدمشق في إحدى القضايا بين زوجين من ديانتين مختلفتين، عندما حكمتبإلحاق الولد بدين أمه وهو الإسلام "لأنه أشرف الأبوين ديناً".بالنسبة للأحكام الأردنية، فقد كانت متساهلة في كثير من القضايا التي لم تٌسقط فيها الحضانة عن المرأة المسيحية مستندة إلى مصلحة الطفل في الدرجة الأولى وهو ما كان يدلّ على التسامح الديني والقراءة المعاصرة للشريعة الإسلامية[2]، إلى حين صدور قانون الأحوال الشخصية الأردني لعام 2010الذي نصّ صراحة في المادة 172على "إسقاطالحضانة فيما إذا تجاوز المحضون سن السابعة من عمره وكانت الحاضنة غير مسلمة". قانون الأحوال الشخصية الأردنيوللأسف شكل من هذه الزاوية خطوة نحو الأسلمة والتمييز ضد غير المسلم والمرأة.

كما أنّ أغلب دول المشرق العربي لا تجيز زواج المسلمة بغير المسلموالأطفال الناجمين عن هكذا علاقة هم غير شرعيين. في هذا انتهاك لحق المرأة المسلمة في اختيار شريك حياتها ولحق غير المسلم الذي يتعرض أيضاً للتمييز لأن القوانين المعمول بها تجيز زواج المسلم بكتابية، وكذلك الأطفال الذين يعتبرون غير شرعيين من دون أي ذنب لهم.فتنصّ المادة 48 من قانون الأحوال الشخصية السوري على أن زواج المسلمة بغير المسلم باطل،وهو ما تؤكده أيضاً المادة 28 من قانون الأحوال الشخصية الأردني لعام 2010.هذا الحظر غير منصوص عليه صراحة في التشريع المصري: وفي هذه الحالة، أي غياب النصّ الصريح، يُلزَم القاضي بالرجوع إلى أحكام المذهب الحنفي المقنّنة في كتاب قدري باشا، والذي يتضمن على حظر هكذا نوع من الزواج المختلط. كما يمكن لأي مواطن في مصر تحريك القضاء المصري في إطار ما يٌسمى "دعوى الحسبة"[3]من أجل الحكم ببطلان وتفريق المعاشرة الزوجية المحظورة بمقتضى الشريعة الإسلامية.

كما تتضمن قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في لبنان على تقييدات تتعلق بالزواج المختلط، على الرغم من الاعتراف بعقود الزواج المدني المبرمة في الخارج، بالاستناد إلى المادة 25 من القرار رقم 60 ل.ر الصادر في 13 آذار/مارس عام 1936 أي خلال فترة الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا[4]، وذلك على عكس بقية الدول المجاورة[5]. كما تمّ تسجيل حالة زواج مدني في لبنان هذه السنة في سابقة قانونية مهمة للغاية وذلك بعد أن وافق وزير الداخلية اللبناني مروان شربل على صحة زواج مدني معقود في لبنان أمام كتب عدل في 2013، بعدما تثبت من قيام الزوجين بشطب أي انتماء طائفي من قيودهما الشخصية. وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوة، تبقى مشكلة عدم وجود قانون مدني ليتم تطبيقه على آثار قضية الزواج هذه في حالات الارث والاولاد أو الطلاق.

ويتعرض غير المسلمون لأوجه تمييز أخرى في مجال الأحوال الشخصية نذكر منها عدم قبول شهادتهم في القضايا المنظور بها أمام المحاكم الشرعية وعدم جواز الميراث مع اختلاف الدين وهو ما يحرم المرأة أو الأطفال المسيحيين لرجل مسلم من الميراث.كما يبدو الانتهاك من خلال استبعاد القوانين غير المسلمة في حال وجود تنازع للقوانين، بل ويتم تطبيق الشريعة الاسلامية في مصر على المسيحيين في حال اختلاف الطرفين في الطائفة والملة، كحالة نزاع في قضيةتجمع شخص كاثوليكيا وآخر أرثوذكسيا. هذا وتنفرد مصر في هذا التطبيق الاستثنائي لأحكام الشريعة الإسلامية على المسيحيين في دول المشرق العربي، فيتيح مثلاً الأردن الخيار للزوجين المسيحيين المختلفين بالطائفة باختيار قانون إحدى الطائفتين للتطبيق على القضية وفي حال فشلهما تختص المحكمة المدنية بالنظر في القضية[6]، أمّا لبنان وسوريا فيتم فيهما غالباً إعمال قانون المحكمة الكنسية التي أبرمت عقد الزواج. فضلاً عن هذا التطبيق للشريعة الإسلامية على مسيحيي مصر، فإنهم يعانون أيضاً من انتهاكات أخرى في مجال حرية التعبير والمساواة أمام القانون وفي مناحي الحياة الأخرى كالعمل والتعليم. كما يتعرضون وكنائسهم لاعتداءات مستمرة خلالممارسة الشعائر الدينيةوعقبات كثيرة في بناء وترميم أماكن العبادة بينما يُلاحظ عدم تعرض المسيحيين في بعض البلدان المجاورة لمثل هذه الانتهاكات. ومع هذا، يمكن أن نقول إن وضع المسيحيين أفضل من وضع أقليات دينية أخرى محظورة في مصر كالبهائيين.

بالنسبة لقضية الردةفي الإسلام، فهي من أبرز الانتهاكات للحق في الحرية الدينية، فتترتب عليها آثار مختلفة تتمثل في تجريد المرتد من الحقوق السياسية والمدنية. فتقضي غالباً المحاكم بتفريق المرتد عن شريكه في الزواج وتُسقط عنه حضانة الأطفال ويتم الحجر على أملاكه ويفقد شخصيته القانونية التي تمنحه القدرة على إبرام العقود المختلفة[7]. ولعلّ أبرز القضايا المعروفة في العالم العربي هي قضية الراحل نصر حامد أبو زيد الذي اتهمته محكمة النقض عام 1996 بالردة وأمرت بتفريقه قسراً عن زوجته بحجة بطلان زواج غير المسلم بالمسلمة. وتجدر الإشارة بأنه وعلى الرغم من غياب أية عقوبة جنائية بحق المرتد في دول المشرق العربي، فإنه غالباً ما يُزج به في السجن تحت تهم جنائية أخرى كزعزعة الأمن العام والوحدة الوطنية أو ازدراء الأديان السماوية كما في حالة الشيخ المصري بهاء الدين العقاد الذي قضى عدّة أشهر في السجن بعد اعتناقه المسيحية، قبل أن يتم إطلاق سراحه بموجب قرار من محكمة في القاهرة بتاريخ 30 تموز/يوليو 2006.

ولا تقتصر انتهاكات قضية الردة في الإسلام على حقوق المسلمين، بل تشتمل أيضاً على انتهاكات تتعلق بغير المسلمين وذلك للأسباب التالية:
أولاً: عندما يعلن أحد المسلمين اعتناقه ديانة غير إسلامية كالمسيحية، فهو من الان وصاعداً مسيحي/ على الرغم من رفض تغيير ذلك في أوراقه الثبوتية، فالعبرة لإيمانه وليس لقبول حكومته اعتناق دينه الجديد أو لا. 

ثانياً: يتعرض غير المسلم للتمييز طالما أنه يٌسمح باعتناق الإسلام وتٌيسر إجراءاته، بينما لا يُسمح للمسلمين باعتناق المسيحية مثلاً.

ثالثاً: نتيجة لحظر الردة، غالبا ما يتعرض المسيحيون للاعتقال والتوقيف بتهمة التبشير الذي تحترم بعض الدول ممارسته بمقتضى الحق بحرية التعبير والحرية الدينية.

رابعاً: يُعاني الكثير من المسيحيين المتحولين للإسلام من المصاعب القانونية أثناء محاولتهم العودة لديانتهم الأصلية وهذه الفئة تعرف باسم "العائدون إلى المسيحية"، وهي من أهم القضايا التي تثير الحساسية الدينية في بلدان المشرق العربي.

كما تتضمن التشريعات الحالية الكنسية، على غرار التشريعات الإسلامية المطبقة من طرف المحاكم الشرعية، العديد من النصوص القانونية المتعارضة مع حقوق الإنسان: كحظر أو تقييد إبرام عقود الزواج المختلط وهو ما يشكل خرق للحق بالزواج دون أي تمييز ولمبدأ المساواة أمام القانون.السماح بالزواج المبكر والتمييز ضد المرأة والتضييق من حالات الطلاق أو حتى منعه أحياناً وهو ما يدفع بعض المسيحيين إلى تغيير ديانتهم إلى الإسلام لغاية الحصول على الطلاق وبالتالي الزواج مرة ثانية. ويتوجب إعادة النظر في صياغة تشريعات الأحوال الشخصية لبناء دولة ديمقراطية تعددية قائمة على المساواة التامة بين المواطنين واحترام حريتهم الدينية.ويتوجب كخطوة أولى على دول المشرق العربي أن تعترف بعقود الزواج المبرمة في الخارج بين رعاياها المختلفين في الدين كما هو الحال في لبنان.

 بالتأكيد ليس من المعقول أن نطالب بالإلغاء الكلي لهذه التشريعات التي تشكّل خيارا للكثيرين من الأشخاص الذين يقبلونها بمحض ارادتهم، ولكن لا يجوز القبول ببعض نصوصها التي تتعارض مع حقوق الإنسان، وكذلك فرض أحكامها على أشخاص لا يؤمنون بها ولا سيما وأنّ مشرّع هذه القوانين هم رجال دين وليست الدولة الممثلة للشعب والتي من المفترض أن تكون صاحبة الحق الأساسي والحصري بالتشريع. فلا بدّ من استصدار قوانين مدنية، مع المحافظة على قوانين الأحوال الشخصية لكل طائفة، وبذلك يكون أمام أي شخصين راغبين بالزواج حرية الاختيار ما بين هذا القانون المدني أو الديني أو حتى الاثنين معا.إنّ إقرار تشريعات مدنية مستلهمة من حاجات العصر وتنطبق على الجميع بصرف النظر عن طوائفهم ومللهم سيسهم حتماً في تعزيز مبدأ المواطنة وبالتالي احترام الحرية والتعددية الدينية.

كما يتوجب على الكنائس في الشرق الأوسط اتخاذ المبادرة الأولى باتجاه علمنة قوانين الأحوال الشخصية والمساهمة بتوحيدها وخاصة في مصر التي يُطبّق فيها الشريعة الإسلامية في حال عدم اتحاد طرفي الدعوى في الملة والطائفة. بالتأكيد الاتجاه يجب أن يسهم باستبعاد القوانين الكنسية أو تعديلها لصالح قوانين مدنية لتطبق على المسيحيين وليس إسلامية، وهنا نذكر بأنه يوجد اتجاه لتطبيق الشريعة الإسلامية على الأحوال الشخصية للمسيحيين كما في مسودة قانون الأحوال الشخصية السوري لعام 2009 التي تضمنت بعض المصطلحات القديمة كالذمي ودار الاسلام وحرمت الكنيسة من الاشراف على ابرام عقود الزواج بين المسيحيين، وحتى شرّعت تعدد الزوجات للرجل المسيحي وألزمت المرأة المسيحية بالعدّة الإسلامية.
أودّ أن أذكر بأن هذا التمييز الديني ليس إلا وجها من أوجه التمييز المتعددة التي يُعاني منها مواطنو المنطقة العربية. فتتسم التشريعات في العالم العربي أيضا بتكريسها للتمييز بين المرأة والرجل، بين العربي وغير العربي، في سوريا مثلا بين البعثي وغير البعثي بين العلوي والسني وإن كان هذا النوع الأخير من التمييز غير مقنن. إذا ليست الدولة الدينية وحدها المسؤولة عن التمييز ضد فئة من مواطنيها إنما نجد ذلك أيضا في إطار دول قائمة على أيدلوجيات أخرى، فمثلا العروبة أثبتت عجزها عن استيعاب غير العرب كالأكراد وغيرهم ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية. في الحقيقة لا يمكن لأية دولة أن تحمل أيدلوجية سواء أكانت دينية أو عرقية أو سياسية أو غيرها لأن ذلك سيؤدي وبشكل حتمي إلى هدم مبدأ أساسي ألا وهو المواطنة، وهو الكفيل وحده باستئصال التمييز في المجتمع. الدولة العصرية، التي لا يمكن بدونها احترام حقوق الإنسان ومعاملة جميع مواطنيها على قدم المساواة، هي الدولة المدنية، أي دولة المؤسسات التي تقدّم خدماتها للمواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم بما فيها الدينية والعرقية. ومن هنا نرفض مبدأ الدولة اليهودية أو الإسلامية أو حتى الكردية والمسيحية.

من أجل معالجة مسألة التعددية والحريات الدينية،يجب الاستناد إلى الخبرات الدولية في هذه الشأن أي الشرعة الدولية لحقوق الانسان. هذه الشرعة لها أيضا قوة قانونية ملزمة للدول العربية التي ارتضتها بمحض إرادتها وصادقت عليها كما شاركت في إعداد مواثيقها الدولية. حتى في حال تغيير الأنظمة السياسية، تبقى القوة القانونية للشرعة الدولية وذلك بحسب القانون الدولي. إن بنود القانون الدولي تشكل أرضية ذات أهمية كبيرة من أجل تحقيق الديمقراطية واحترام الحريات، ولاسيما وأن هذه البنود تسمو على القانون والتشريعات التمييزية التي ذكرتها أعلاه. تتضمن العديد من الصكوك الدولية لحقوق الإنسان بنوداً قانونية تتعلق بضمان التعددية الدينية والعرقية وحماية حقوق الأقليات كالحق بالحياة والمساواة وعدم التمييز والحرية الدينية، فضلاً عن بعض الحقوق الخاصة بالمنتمين إلى أقليات والتي تتعلق بضرورة احترام حقهم بالتمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم. إنّ مبدأ سمو القانون الدولي على القانون الداخلي يُعتبر أحد أهم المبادئ الدولية كما أكّدت المادة 27 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات على أنه: "لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كمبرر لإخفاقه في تنفيذ المعاهدة".وغالبا ما تذكر لجان حقوق الانسان الأممية بأنه يحق للمواطنين التذرع بنصوص المعاهدات حتىأمام الجهاز القضائي للدول الأطراف. تٌشير بعض الدساتير العربية صراحة إلى سمو القانون الدولي على الداخلي والبعض الآخر يعطي الاتفاقية الدولية قوة القانون وهو أمر غير كاف حيث تسمو الاتفاقية في هذه الحالة فقط على القوانين السابقة لإقرارها أما القوانين اللاحقة فتلغي بنودها عند التعارض بينهما.

فضلاً عن هذا المبدأ، فإنه يتوجب على الدول أن تُدرج نصوص الاتفاقيات الدولية في تشريعاتها الداخلية وأن تعدل هذه الأخيرة لتنسجم مع مضمون الاتفاقيات الدولية. هذا المبدأ منصوص عليه غالبا في بنود الاتفاقيات الدولية كما هو الحال في المادة الثانية من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وكذلك في اجتهادين قديمين للمحكمة الدائمة للعدل الدولي. وأخيرا يتضمن القانون الدولي آليات معينة لتأمين احترام هذه الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية وضمان انصياع الدول لالتزاماتها في هذا الصدد. هذا ويعترف القانون الدولي بالأقليات، فقد كانت الفكرة السائدة بأنّ إعمال حقوق الإنسان بشكل عام وخاصة مبدأ المساواة كفيل بتحقيق حقوق الأشخاص المنتمين إلى الأقليات وبالتالي اندماجهم بمجتمعاتهم. إلا أنّ هذه الفكرة المغلوطة سرعان ما تمّ تجاوزها أثناء صياغة بنود هذا العهد وبخاصة من خلال نصّ المادة 27 التي تشكل سابقة في صكوك الأمم المتحدة من حيث اعترافها بالوجود القانوني للأقليات. إنّ إعمال مبدأ المساواة غير كافٍ بحدّ ذاته لاحترام وتعزيز حقوق أبناء الأقليات نظراً لوجود بعض الاختلاف في طبيعة هذه الحقوق عن بقية أبناء الوطن ولاسيما منها الحقوق اللغوية والثقافية، كما أنّ الاعتراف بالأقليات لمعالجة مشاكلها يسهم في تحقيق الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي للدول. وبحسب القانون الدولي، لا تتحقق الديمقراطية ما لم يتم ضمان احترام حقوق الأقليات، وهذا ما أكّده صراحة إعلان وبرنامج عمل فيينا لعام 1993 الذي جاء في فقرته الثامنة بأن "الديمقراطية والتنمية واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، أمور مترابطة ويعزز بعضها بعضا"[8]. ولذلك فإنّ أي تشريع قانوني، حتى لو وافقت عليه الأغلبيةفي دولة ما، يجب أن يحترم حقوق الإنسان والأقلية بصرف النظر عن عددها.

بالتأكيد لضمان السير باتجاه نظم ديمقراطية، يتوجب أن يتم اتخاذ الإجراءات المطلوبة على جميع الأصعدة بما فيها القانونية والاجتماعية والسياسة والثقافية بما يضمن تعديل الأنظمة التعليمية ونشر ثقافة المواطنة وحقوق الانسان. كما أنّ حوار الأديان والتفسير الحديث لمبادئ الشريعة الاسلامية وتصالحها قدر الإمكان مع حقوق الانسان يعتبر ركنا أساسيا لتحقيق هذه الأهداف المرجوة وخاصة في ظل وصول تيارات اسلامية إلى السلطة في عدد من الدول العربية.



[1]فتنصّ أغلب دساتير هذه الدول على أنّ دين الدولة هو الإسلامعدا سوريا ولبنان – وأنّ الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع أو حتى المصدر الرئيسي.أمّا الدستور السوري، فيكتفي بالنصّ على أنّ "دين رئيس الجمهورية الإسلام"في انتهاك لمبدأ عدم التمييز بين المواطنين، والدستور اللبناني يخلو من أية إشارة إلى الدين الإسلامي ولكنه مبني على مبدأ المحاصصة الدينية التي عجزت حتى اليوم عن تجاوز الطائفية السياسية.
[2]أنظر على سبيل المثال قرار محكمة التمييز الأردنية رقم 65/493 المنشور في جريدة المحامون الأردنية عام 1966 والذي أجازت بموجبه للمرأة المسيحية بحضانة طفلها حتى بلوغه سنّ التاسعة إذا كان المحضون ذكر وحتى سنّ الحادية عشر فيما إذا كانت أنثى.
[3]أنظرالقانون رقم 3 لعام 1966.
[4]في خلاف ذلك وعلى الرغم من تشابه الوضعين في سوريا ولبنان، فإن المحاكم السورية لا تعترف بعقود زواج السوريين المبرمة في الخارج وتلزم أصحابها بإجراء عقود زواج جديدة في سوريا بديلة أو متممة وهو ما يمكن أن يصطدم بالعديد من العوائق القانونية وخاصة في حال اختلاف الدين كأن تكون المرأة مسلمة والزوج الأجنبي غير مسلم.
[5]لابدّمن الإشارة إلى أنّ الوضع في لبنان يشكّل استثناء لما هو معمول به في بقية دول المشرق العربي من حيث ضمان نوع من المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في مجال قوانين الأحوال الشخصية. ومع ذلك تشتمل هذه الأخيرة على العديد من أوجه التمييز ضد المرأة.
[6]أنظر المادة 10 من القانون رقم 2 لعام 1938.
[7]فمثلاً تشترط صراحة المادة 171 من قانون الأحوال الشخصية الأردني لعام 2010 على أن لا يكون مستحق الحضانة مرتداً.
[8]إعلان وبرنامج عمل فيينا، المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان، فينا، 14-25 حزيران/يوليو 1993، أولاً، 8.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، سوريا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني