بيان جمعية قضاة لبنان بتعليق الاعتكاف: هكذا ولد تصور القاضي المستقل والصلب


2019-06-17    |   

بيان جمعية قضاة لبنان بتعليق الاعتكاف: هكذا ولد تصور القاضي المستقل والصلب

أصدرت الجمعية العمومية للقضاة منذ قليل بيانا تحت عنوان: “كي لا يٌكره القضاة على ما يَكرهون: لا مساومة على استقلالية السلطة القضائية بعد اليوم”. وقد جاء في ختام الجمعية العمومية التي قررت تعليق الاعتكاف الذي باشروه منذ أكثر من ستة أسابيع.

وبعدما عدّد البيان ما أحرزه الحراك على الصعيد القضائي والمؤسساتي، توقف عند كلمة رئيس الجمهورية (والتي وصفوها بالتاريخية) التي أكدت على عدم جواز تخفيض أي من الضمانات المالية والمعنوية (وهي الأمر الذي كانت المفكرة القانونية سباقة في الإشارة إليه منذ 2017 على أساس القرارات الصادرة عن المجلس الدستوري بهذا المعنى).

كما دعم البيان جهود لجنة الإدارة والعدل، الآيلة إلى درس اقتراح قانون استقلال القضاء مباشرة بعد الانتهاء من قانون الموازنة العامة، تمهيدا لإقراره.

الأهم أن القضاة أبدوا ثقة في حراكهم الديمقراطي وتضامنهم فيما بينهم، رغم كل الضغوط والتهديدات الصادرة عن كذا مرجع من بينها مجلس القضاء الأعلى الذي تمت مقاربته في البيان (وهو المعين بحدود 8/10 من أعضائه) وكأنه يد للسلطة من خارج القضاء. ولربما يشكل تنامي ديمقراطية القضاء على هذا الوجه المدخل الأمثل لتغيير آلية تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى بحيث تكون غالبيتهم منتخبين مباشرة من القضاة، من مختلف فئاتهم ودرجاتهم. واللافت أن القضاة أكدوا في السياق نفسه إصرارهم على ضرورة تقيّد التعيينات والتشكيلات القضائية المرتقبة بالمعايير الموضوعية ليس فقط من الاستقلالية والعلم والنزاهة، بل أيضا من “الصلابة”، فتُفتح أبواب العدلية على آفاق العدالة والعنفوان.

ولعل كلمتي صلابة وعنفوان، وهما من المرادفات الجديدة،ـ يعبران خير تعبير عما انتهى إليه الحراك بنظر الجمعية العمومية للقضاة، وتحديدا عن رؤيتهم لنموذج القاضي الجديد، نموذج القاضي ما بعد معركة الاعتكاف 2019، نموذج القاضي الأكثر قدرة وتطلعا على مواجهة الضغوط والتدخلات والانتفاض ضده، القاضي الذي ينتقل من نظام موجب التحفظ وما فرضهما من صمت وعزلة، إلى نظام موجب الاستهجان وما يفرضه من تصدّ لأي امتهان لحياد القضاء واستقلاله. وهذا ما يلتقي تماما مع العنوان الذي اختاروه لبيانهم والذي رفضوا فيه أي مساومة على استقلال القضاء بعد اليوم.

ولم ينس القضاة عن التعبير مجددا عن انفتاحهم على القوى الاجتماعية الحرة: فعادوا وحيوا الأحرار من المواطنين والمحامين والإعلاميين والحقوقيين الذين واكبوا الاعتكاف ومطالب القضاة بإيجابية بالرغم من كل حملات التشويه الممنهجة المساقة من كل صوب، رافضين الانحدار إلى مستوى الإساءات المستهجنة، منصرفين إلى سمو نضالهم.

يبقى أن تحيي المفكرة الحراك القضائي اللبناني، مكررة التزامها التام والصلب أيضا بقضية استقلال القضاء الذي هو الطريق الأساسي لتحقيق استقلال المواطن (المحرر).

عطفاً على ما ورد في البيان الصادر عقب الجمعية العمومية الأخيرة للقضاة المنعقدة في 10/6/2019 الذي تضمن ما يشير إلى تلقف القضاة أية بوادر إيجابية صادرة عن المعنيين لملاقاتها بالمثل، وفي ضوء التطورات الأخيرة، انعقدت جمعية عمومية للقضاة نهار الاثنين الواقع فيه 17/6/2019 في قصر عدل بيروت، تباحث خلالها القضاة في المستجدات التي تمثّلت بالآتي:

1- ترقّب الرأي العام لإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية الذي سوف تجري مناقشته في لجنة الإدارة والعدل فور الانتهاء من قانون الموازنة، وفق ما أعلنه رئيس لجنة الإدارة والعدل، مع التشديد على أن الوضع بعد الحراك القضائي لن يكون أبداً كما قبله.

2- وصول الأسباب الموجبة لاعتراض القضاة ولاعتكافهم ومطالبهم الحقيقية إلى مختلف المراجع الدستورية المعنيّة وقد تجلّى ذلك صراحة في:

  • الكلمة التاريخية التي ألقاها فخامة رئيس الجمهورية (ميشال عون) في احتفالية مئوية محكمة التمييز في 12/6/2019 في قصر عدل بيروت، حيث أشار بصراحة تامة إلى عدم جواز المسّ بالضمانات المالية والمعنوية للسلطة القضائية التي لا يجوز إلا أن تُعزَّز دون التفكير في التعرّض لها وإنقاصها وإلى أن تكريس استقلالية السلطة القضائية هو حق وليس منّة من أحد.
  • تصريح دولة رئيس مجلس النواب (نبيه بري)، بتاريخ 12/6/2019، بعدم جواز إنقاص أية ضمانات كرّسها القانون للقضاة.
  • تصريح دولة رئيس مجلس الوزراء (سعد الحريري) بتاريخ 12/6/2019، بأن الدولة مُجبرة على إعطاء القضاء ما يريد لأن ذلك يؤمّن استقلاليته.
  • تأكيد رئيس لجنة المال والموازنة (ابراهيم كنعان) على أحقية مطالب القضاة وموافقته عليها.
  • سماع رئيس لجنة الإدارة والعدل (جورج عدوان) صرخة القضاة وتأكيده على حقهم بقانون استقلالية حقيقي سوف يعمل على مناقشته فور الانتهاء من مشروع الموازنة.
  • تكريس الحراك القضائي ظاهرة ديمقراطية داخل السلطة القضائية صمدت بوجه الترغيب والترهيب الذي وصل مؤخراً إلى حدّ التلويح أمام قضاة أجانب، بإيقاف رواتب القضاة المعتكفين[1]، في حين أن مجلس القضاء الأعلى كان قد دعا في غير مرة القضاة إلى الاعتكاف.
  • تمكّن الحراك القضائي مؤخراً، من حثّ ممثلي مجلس القضاء الأعلى وصندوق تعاضد القضاة على رفع سقف مطالبهم إلى الحدّ المعلن عنه في بيان الجمعية العمومية للقضاة، تاريخ 8/5/2019، بعدما أدلوا مراراً في الجمعيات العمومية أن ما هو مطروح على القضاة هو أفضل الممكن، وبعدما وافقوا مسبقاً، دون احترام نص المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي، على التخفيضات المقترحة والانتقاص من الحقوق، وهو ما كشفه وزير المالية في تصريحه الذي لم يرد أي نفي له.

وتوقّف القضاة عندما ورد على لسان البعض حول قانونية الاعتكاف، فهذا الاعتكاف كان جزئياً، وأمّن استمرارية مرفق العدالة بحدّه الأدنى، حيث بقي القضاة يحضرون إلى مكاتبهم كالمعتاد ويسيّرون الأمور الملحّة غير القابلة للتأجيل.

وفي ضوء ما سلف، وعملاً بما وعد به القضاة في البيان السابق لناحية تلقّف الإيجابيات، قرّر المجتمعون بالتوافق تعليق الاعتكاف الجزئي مؤقتاً لحين انتهاء مناقشة مشروع قانون الموازنة من قبل لجنة المال والموازنة، على أمل ألّا يُكره القضاة مجدداً على ما يَكرَهون، لإتاحة المجال لتصويب مسار خاطئ كان متّبعاً تجاههم، يشترك في تحمّل مسؤوليته مَن أوليت إليه مسؤولية الدفاع عن مصالحهم، وعلى أن يبقى الحراك القضائي متابعاً خطته التي باشر بها قبل تعليق الاعتكاف.

وفي ختام الجمعية، وجّه القضاة التحية للأحرار من المواطنين والمحامين والإعلاميين والحقوقيين الذين واكبوا الاعتكاف ومطالب القضاة بإيجابية بالرغم من كل حملات التشويه الممنهجة المساقة من كل صوب، رافضين الانحدار إلى مستوى الإساءات المستهجنة، منصرفين إلى سمو نضالهم.

وتطلّعوا بكثير من الأمل والرجاء، إلى إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، وإلى التعيينات والتشكيلات القضائية المرتقبة التي أملوا أُلا تراعي إلا المعايير الموضوعية من الاستقلالية والعلم والنزاهة والصلابة، فتُفتح أبواب العدلية على آفاق العدالة والعنفوان.

[1] هذا التلويح صدر عن رئيس مجلس القضاء الأعلى  جان فهد في احتفالية مئوية محكمة التمييز (المحرر).

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني