“أندروجين” أمام القضاء الجزائي اللبناني: حكم ثان لإعادة تعريف المجامعة خلافاً للطبيعة


2014-03-04    |   

“أندروجين” أمام القضاء الجزائي اللبناني: حكم ثان لإعادة تعريف المجامعة خلافاً للطبيعة

في بدء التكوين كان آدم، أول الرجال، وكانت حواء أولى النساء، ولكنه وفقا” لأفلاطون، قبل آدم وقبل حواء، كان أندروجين، كائن مكتمل، يمتلك جنس الذكر وجنس الأنثى معا”، أعضاؤه التناسلية مزدوجة، إلا أنه بعدما اشتد غروره وتجرّأ على مهاجمة الآلهة، عوقب فشطر الى جزئين، ذكر وأنثى.

بتاريخ 28/1/2014، أصدر القاضي المنفرد الجزائي في جديدة المتن ناجي الدحداح حكماً بتبرئة متحوّلة جنسياً، بعدما تم الادعاء عليها على أساس أنها تقيم علاقات مع ذكور. وقد شكل هذا الحكم مؤشراً هاماً جداً، ليس فقط على صعيد التعامل مع متحولي الجنس ولكن أيضاً على صعيد تفسير المادة 534 من قانون العقوبات الخاصة بمعاقبة المجامعة خلافاً للطبيعة، والتي غالباً ما استُخدمت لمعاقبة العلاقات المثلية. ومن المعلوم أن المادة المذكورة طرحت في السنوات الأخيرة إشكاليات متنوعة في الوسط القضائي تمحورت حول معنى العبارات المستعملة فيها، فمنهم من رفض تجريم العلاقات المثلية على أساسها، ومنهم من فسّر المادة على أنها تجرّم هذا النوع من العلاقات[1].

وقائع الدعوى: شخص وُلد مع أعضاء تناسلية مشوّهة وغير مكتملة، أي أن أعضاءه التناسلية لا تسمح بتحديد انتمائه الجنسي الذكري أو الأنثوي، تسجل في سجلات الأحوال الشخصية على أنه ذكر، إذ لا وجود لأي خانة ثالثة في قيود الأحوال الشخصية، والفرد يصنّف عند ولادته إلزامياً بالذكر أو الأنثى. لكنه لطالما شعر بميل كبير ليصبح امرأة بسبب الهرمونات الأنثوية في جسمه، ما أدى به الى الخضوع في التسعينيات الى عمليات جراحية من استئصال للعضو الذكري وزرع رحم اصطناعي. وعلى أثر علاقاته الجنسية مع الذكور، تم توقيفه والادعاء عليه أمام القاضي المنفرد الجزائي في جديدة المتن وقد شكلت هذه الملاحقة على حد علمنا الحالة الأولى لمحاكمة متحوّل جنسي أمام القضاء الجزائي، علماً أن القضاء المدني قد سبق له أن استجاب لطلبات عديدة مقدمة من متحوّلي جنس لتصحيح قيودهم في سجلات الأحوال الشخصية[2].
تبعاً لذلك، طُرح على القاضي سؤال أساسي بشأن مفهوم المجامعة خلافاً للطبيعة.هل هي المجامعة التي تتم بين شخصين ينتميان الى الجنس الواحد؟ وفي حال الإيجاب، كيف يتم تحديد هذا الجنس والهوية الجنسية؟ هل هي الهوية المعتمدة في الأوراق والسجلات، أم هي الهوية البيولوجية، أو لربما الهوية النفسية، أو يا ترى الهوية الاجتماعية؟ وما مدى حرية الشخص في تحديد هويته الجنسية وفي ممارسة العلاقات الجنسية؟

ينطلق القاضي في تحليله بادئ ذي بدء من هوية الشخص المتهم كما أُدرجت في سجلات النفوس فيشير اليه بالذكر. إلا أنه يرافق الشخص منذ ولادته لغاية تاريخ الحكم: وعليه، وبعد أخذه بعين الاعتبار تطوّر الشخص اجتماعياً ونفسياً وخارجياً، يتراجع القاضي عن تصنيفه الأولي المسند الى ظاهر سجلات النفوس فيعود ويشير الى المتهم بمفردات لغوية مزدوجة عبر تعريفه له بـ”المدعى عليه(ا)”، مشدداً بذلك على هوية جنسية مزدوجة، معقدة وعميقة، لا يمكن وضعها في خانة ذكر أو أنثى، فتظهر لنا للمرة الأولى على الصعيد القانوني هوية ثالثة تشمل الذكر والأنثى، وتكرّس حرية الشخص في الانتماء الجنسي وإن لم يدخل في إطار الفئات المعتمدة في المجتمع.

وإن هذا التمنع له بالطبع ارتدادات مهمة على صعيد المادة 534 من قانون العقوبات. فتحييد الجنس كعنصر لتطبيق هذه المادة، والارتكاز على “الشكل الخارجي” والتصرفات الاجتماعية والشعور النفسي من شأنه إعادة النظر بتجريم العلاقات بين المثليين. إذ إنه في ظل عدم اعتماد الانتماء الجنسي كعامل لتطبيق المادة، لا يمكن تعريف المجامعة خلافاً للطبيعة سنداً لهذا الانتماء عبر تفسيرها على أنها تشمل العلاقات بين الأفراد المنتمين الى الجنس نفسه.

هذه القراءة للحكم تؤكدها الخلاصة التي وصل اليها الحكم بإبطال التعقبات لارتكاب جنحة المادة 534 من قانون العقوبات لانتفاء عناصرها الجرمية، عملاً بالمبدأين الآتيين:

أولا: مبدأ عدم التوسع في تفسير النص الجزائي. في هذا المجال، يذكّر الحكم “أن المشترع لم يحدد مفهوماً واضحاً للمجامعة على خلاف الطبيعة” وأنه في غياب هذا التعريف، يستعيد القاضي سلطة تقديرية لتفسير النص، على أن تفسير النص في المادة الجزائية يتجه نحو الحصر نظراً لما قد يؤدي التوسع في التفسير الى تقييد للحريات الفردية. من هذا المنطلق، يذهب الحكم الى تعريف حصري لمفهوم “الخلاف للطبيعة” حيث إنه يؤكد أن “الأشخاص المصابين بحالة الاضطراب في الهوية الجنسية (…) وإن شذوا عن القاعدة وخرجوا عن المألوف، فهم يبقون من ولادة الطبيعة التي لم يخرجوا إلا منها”، مذكّراً بأن الخروج عن المألوف لا يعني الشذوذ وأن الطبيعة لا تعرّف بسلوك الأكثرية. ومن هذه الجهة، يتميز الحكم بنظرته للطبيعة الإنسانية معيداً بذلك أصداء الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في البترون بتاريخ 2-12-2009 الذي جاء فيه حرفياً “أن الإنسان هو جزء من الطبيعة وأحد عناصرها، فلا يمكن القول عن أي ممارسة من ممارساته أو عن أي سلوك من سلوكه أنه مخالف للطبيعة حتى ولو كان سلوكاً جرمياً لأنها هي أحكام الطبيعة”. وتجدر الإشارة هنا الى ما ذهب اليه الحكم لجهة أن مفاهيم القانون الجزائي تستقل عن مفاهيم الأديان السماوية مفادها، فضلاً عن اعتماد القاضي على معايير علمانية مستقلة، تحرير السلوكيات الاجتماعية، خاصة الجنسية منها، من قيود الأهداف التناسلية للعلاقات الجنسية

أما المنطلقات الثانية التي استند اليها الحكم، فمفادها “ما كرّسه الدستور اللبناني وشرعة حقوق الإنسان لجهة وجوب ضمان المساواة بين الأفراد في المجتمع وصون حريتهم الشخصية، خصوصاً عندما لا تؤدي هذه الحريات الى الإضرار بالغير. وبالطبع، لهذه المبادئ أبعاد تتعدى متحولي الجنس لتشمل المثليين، حيث إن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد سبق لها أن استندت الى المبادئ نفسها لإدانة الدول التي تجرّم علاقات المثليين[3] وقد أشار الحكم موضوع التعليق في هذا الإطار الى “قرار مجلس حقوق الإنسان الصادر بتاريخ 17 حزيران 2011 الذي لحظ بوضوح، لأول مرة، إجراءات لمواجهة الانتهاكات والتمييز تجاه الأشخاص بسبب ميلهم الجنسي وهويتهم الجنسية، وإن كان غير ملزم للبنان“.

أخيراً، لا بد من التشديد على أن معضلة المادة 534 من قانون العقوبات ليست بهاجس يحصر بمثليين ومتحولي الجنس، فالحديث عن تجريم كل مجامعة خلافاً للطبيعة يثير مسألة مدى حرية الأفراد أياً كان ميلهم الجنسي في تنظيم علاقاتهم الخاصة خارج إطار الزواج، وفق ما يرونه مناسباً، دون أي تمييز كان. إذ إنه على الرغم من أن القانون اللبناني لا يعاقب المساكنة غير الزوجية في لبنان بصورة مباشرة، إلا أنه عبر التمييز بين الحقوق الإرثية للأولاد الناتجين من علاقة زوجية وأولئك الناتجين من علاقة خارج إطار الزواج، يعود ويعاقبها وإن بصورة غير مباشرة.

وإلغاء المادة 534 من قانون العقوبات حجر أساس لصد التعديات غير المحقة في خصوصية الفرد. والحكم موضوع التعليق يرسم لنا مع سابقه المشار اليه أعلاه الاتجاه الذي يقتضي سلوكه.

نشر في العدد الرابع عشر من مجلة المفكرة القانونية  

للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا

المزيد عن الحكم على الرابط ادناه


[1]وحيد الفرشيشي ونزار صاغية، العلاقات المثلية في قوانين العقوبات: دراسة عامة عن قوانين الدول العربية مع تقريرين عن لبنان وتونس.
[2]يمنى مخلوف، قضاة الأساس يجتهدون: لمتخالطي الجنس أن يصححوا قيد جنسهم في سجلات النفوس، المفكرة القانونية، 26 ايلول 2011.
[3] Diane Roman, Fasc. 640 : droit au respect de la vie privée, du domicile et de la correspondance, 2007 : « Réfutant que la protection de la morale puisse justifier des poursuites pénales, la Cour européenne des droits de l’homme a affirmé que “ du point de vue de la proportionnalité, les conséquences dommageables que l’existence même des dispositions législatives en cause peut entraîner sur la vie d’une personne aux penchants homosexuels, comme le requérant, prédominent aux yeux de la Cour sur les arguments plaidant contre tout amendement au droit en vigueur. L’accomplissement d’actes homosexuels par autrui et en privé peut lui aussi heurter, choquer ou inquiéter des personnes qui trouvent l’homosexualité immorale, mais cela seul ne saurait autoriser le recours à des sanctions pénales quand les partenaires sont des adultes consentants”. La protection de la vie privée fournit un cadre général interdisant à l’État de s’immiscer, sauf justification suffisante fournie par le risque de nuire à des individus vulnérables ou par des répercussions sur la collectivité (CEDH, 22 oct. 1981, Dudgeon c/ RU : GACEDH, PUF, 2005, p. 410, F. Sudre et al. – V. aussi, CEDH, Modinos c/ Chypre, série A. 259, 22 avr. 1993. – CEDH, ADT c/ RU, 31 juill. 2000 : RTDH 2002, p. 345, note M. Levinet – Solution identique dans C. suprême États Unis, 26 juin 2003, n° 02-102, John Geddes Lawrence and Tyron Garner petitioners v. Texas. – V. D. Borillo (dir.), Homosexualités et droit, Les voies du droit : PUF, 1999) ».

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مجلة لبنان ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني