“فحوصات العار” تستمر في “جمهورية العار”: حين يصبح القانون والطب مجرد أدوات للإذلال والتخويف


2014-07-01    |   

“فحوصات العار” تستمر في “جمهورية العار”: حين يصبح القانون والطب مجرد أدوات للإذلال والتخويف

في الشهر الأول من سنة 2014، أقدمت قوى الأمن الداخلي عند حوالي الساعة الثالثة من بعد الظهر، على مداهمة شقة أحد المواطنين اللبنانيين، وأوقفت خمسة أشخاص هم: لبنانيان، أحدهما صاحب الشقة، وثلاثة سوريين. اقتيدوا جميعاً الى مخفر المصيطبة، حيث تم توقيفهم لمدة ثلاثة أيام، خضعوا خلالها لتحقيقين قبل أن يُخلى سبيلهم. لكن ما هو السبب الذي استدعى مداهمة شقة وتوقيف جميع الموجودين فيها؟ ما هي الجريمة التي يشتبه في قيامهم بها والتي اقتضت توقيفهم طيلة ثلاثة أيام وإخضاعهم لتحقيقين، أحدهما دام ما يقارب الساعة والنصف؟ ما أرادت التحقيقات كشفه، يرتبط في الواقع بكشف أحد أكثر الأمور حميمية لديهم: ميلهم الجنسي، وبكلمة أخرى، خروجهم عن إطار ما يعد بمفهوم الغالبية والتقاليد “علاقات طبيعية”. فخطر الخروج عما هو “طبيعي” أو ما هو “سائد”، يستدعي بالضرورة مداهمة الأشخاص المشتبه فيهم بارتكابه وتوقيفهم وإخضاعهم لتحقيقات معمقة وطويلة لتبيان حقيقة ما هم عليهم، حقيقة مخالفتهم “للطبيعة”. وبالطبع، لا بأس لتحقيق هذه الغاية النبيلة والضرورية اجتماعياً أن يتخلل هذا التحقيق إخضاع المشتبه فيه بارتكابه لكل ما لدينا من وسائل حتى ولو كانت بنظر المدافعين عن حقوق الإنسان وسائل بربرية مهينة للكرامة الإنسانية، بل حتى ولو بدت بالنسبة الى الطب أنها مجردة عن أي قيمة علمية: فالخطر محدق لدرجة أنه يبرر اللجوء الى أي سلاح أو وسيلة متاحة بمعزل عن قيمتها القانونية أو العلمية. وهذا ما حصل مع الشبان الخمسة الذين تم، ليس فقط توقيفهم لأيام ثلاثة، بل أيضاً إخضاعهم لما اتفق على تسميته بـ”فحوص العار”، وهي الفحوص الهادفة الى التعرف على شكل الشرج وخصائصه، إثباتاً لشبهة المثلية أو لدحضها. وما نريده هنا هو الإضاءة على تفاصيل هذه التحقيقات تبياناً لسوء الإجراءات المعتمدة، والتي تبدو غير متناسبة بشكل من الأشكال لا مع خطورة الجرم ولا مع تطور قيم المجتمع ولا حتى مع قانون الإجراءات الجزائية.

تحقيقات المصيطبة: فلنسأل الخادمة والناطور
بتاريخ 8/1/2014 ورد اتصال الى غرفة عمليات قوى الأمن الداخلي يفيد بوقوع إشكال في إحدى شقق العاصمة في بيروت بين شبان يشتبه في أنهم يقومون “بأعمال لواط داخل الشقة المذكورة”. وفور إبلاغها بذلك، هبّت قوى الأمن الداخلي لحماية الأمن الوطني إزاء إمكانية حدوث جريمة من هذا العيار الثقيل. وعند الساعة الثالثة من بعد الظهر تقريباً، دخل الدرك الشقة، كبلوا الجميع، واقتادوهم الى مخفر المصيطبة حيث بوشرت التحقيقات. ووفق إفادة الشابين، اللذين أمكن المفكرة الاستماع الى إفادتهما، كان عناصر الدرك يقدمون على صفعهم جميعاً أثناء اقتيادهم الى المخفر وعند وصولهم اليه. تمحور تحقيق المصيطبة حول مسألتين أساسيتين: كشف ما هي العلاقة التي تربط الشبان الخمسة بعضهم ببعض وكيفية تعارفهم على بعضهم البعض، ومعرفة ما إذا مارس أي منهم “الجنس أو أي عمل مناف للحشمة مع أحد من الشبان”؟
يقول الشابان إن المحقق سألهما بداية إن كانا يريدان الاتصال بأحد. ولما طلبا الاتصال بالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين على اعتبار أنهما لاجئان، رفض المحقق قائلاً: “شو بدكن بهل الشغلي” مفسراً أن هذا الحق هو فقط للاتصال بالأقارب (المحضر لا يذكر أن الشابين طلبا الاتصال بالأمم المتحدة، يورد فقط أنهما لم يرغبا بالاتصال بأحد).

وبعد عرض كل من الموقوفين الخمسة لرواية لقائهم وتعارفهم على بعضهم البعض، ونفيهم الإقدام على أعمال منافية للحشمة أو على ممارسة الجنس في ما بينهم، وكان قد مرّ أربع ساعات على توقيفهم، اتصل المحققون بممثلة النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، القاضية رندة يقظان، لإطلاعها على تفاصيل الملف والعمل بناءً لإشارتها. ويبدو أن إفادة الموقوفين لم تقنع القاضية يقظان، التي شعرت بأن هناك خيوطاً لا بد من كشفها للوصول الى إثبات الجريمة: هل الشبان الخمسة مثليو الجنس؟ لذا، أوعزت القاضية يقظان الى عناصر فصيلة المصيطبة الانتقال الى منزل اللبناني لتفتيشه والاستماع الى “الخادمة والناطور” من أجل جمع معلومات أكثر دقة عن حياتهم الخاصة. وعليه، انتقل بعض المحقيقين برفقة اللبناني الى شقته التي جرى تفتيشها فلم يُعثر على أي شيء “غير الأثاث والملابس”. وبعد ذلك، تم الاستماع الى إفادة العاملة في الخدمة المنزلية، التي تبين أنها وصلت الى لبنان منذ بضعة أيام، وأنها لا تجيد اللغة العربية جيداً. لكن هذا الأمر لم يشكل عائقاً أمام كشف ملابسات “الجريمة”. سُئلت العاملة عما تراه في المنزل، وعما يحدث في الليل فأعلمتهم أنها عندما تنام “يقفلون الأبواب (أي صاحب الشقة وصديقه) وأنها لا ترى شيئاً مما يجري”.

أما الناطور، فعبّر عن تعاون أكبر مع محققي فصيلة المصيطبة، وقد تبين أن عينه ساهرة حرصاً على أمن سكان البناية الذي لربما هو مهدد بسبب زيارة “شبان لا أرتاح لهم من حيث المياعة وقلة الحياء”. وتبعاً لذلك، تمت مراجعة القاضية يقظان، فقررت توقيف الشبان الخمسة وإيداع المحضر جانب نيابتها عبر مكتب حماية الآداب العامة.

تحقيقات مكتب حماية الآداب العامة: الفحص الشرجي
بتاريخ 10/1/2014، انتقل محققان من مكتب حماية الآداب العامة الى فصيلة المصيطبة “للتوسع بالتحقيقات”. ويلحظ أن مرد إجراء تحقيقات الآداب في المصيطبة وليس في مكتب الآداب يعود على الأرجح الى ازدحام زنزانة مكتب الآداب وعدم توافر مكان فيها. ويروي الشابان للمفكرة أنهما تعرّضا أيضاً لمضايقات وإهانات من قبل محققي مكتب حماية الآداب حيث طرحت عليهم أسئلة (لم يوثقها المحضر) من قبيل “مين العروس ومين العريس”. ولم تخل الإهانات من العنصرية، فلم يترددوا بالتوجه لهما قائلين “انتو (السوريين) وسختوا البلد”. ويتابع الشابان بالقول إن المحققين أقدموا على مصادرة الأجهزة الخلوية العائدة لهما وصاروا ينظرون الى الصور والرسائل القصيرة للتدقيق أكثر بتفاصيل حياتهما الشخصية.

سأل المححقان مجدداً عن العلاقات التي تربط الشبان الموقوفين بعضهم ببعض وكيف تعارفوا في ما بينهم وإن كانوا “يمارسون اللواط”. الفارق الوحيد بين هذا التحقيق والذي سبقه، وهنا نتبين أحد أبرز انتهاكات هذا التحقيق، هو ما وثقه المحضر عن سؤال الموقوفين الخمسة إن كان لديهم مانع بعرضهم على طبيب شرعي “لإبعاد شبهة اللواط” عنهم. هنا نقرأ في المحضر أن الجميع وافق لا بل أحدهم “رغب” بعرضه على الطبيب الشرعي. غير أن الشابين اللذين التقينا بهما، يرويان رواية مغايرة عما تم تدوينه، فهما حسب قولهما اعترضا على عرضهما على طبيب شرعي، إلا أن المحقق أعلمهما أن اعتراضهما هذا سيستخدم كإثبات على أن هناك أمراً ما يريدان إخفاءه. تبعاً لذلك، أشارت القاضية يقظان حسبما جاء في المحضر بـ”تكليف طبيب شرعي للكشف على الموقوفين”.  ورواية الشابين تتطابق بالواقع مع نص التعميم الذي كان النائب العام التمييزي السابق سعيد ميرزا قد أصدره في 9/7/2012. حيث جاء فيه: “نطلب الى النيابات العامة المعنية في حالة الاشتباه بواقعة مثليي الجنس إعطاء التعليمات الواضحة للطبيب المختص وعناصر الضابطة العدلية بأن ينفذ هذا الإجراء بموافقة المشتبه فيه ووفقاً لقواعد الأصول الطبية بشكل لا يفضي الى ضرر هام. وفي حال رفض المشتبه به الإذعان لهذا الإجراء إفهامه أنه يستخلص من رفضه قرينة على صحة الواقعة المطلوب إثباتها”. وهو تعميم صدر قبل حوالي شهر من الكتاب الصادر عن خلفه بالوكالة سمير حمود بتعميم كتاب وزير العدل السابق شكيب قرطباوي المؤرخ في 11/8/2012 بوجوب التوقف تماماً عن أي فحص شرجي، على جميع المدعين العامين، بمن فيهم السيدة رندة يقظان. وكان قرطباوي قد أسس كتابه على التعميم الصادر عن نقيب أطباء بيروت في 7-8-2012 بأن هذه الفحوص خالية من أي قيمة علمية ومخلة بالكرامة الإنسانية.
وعملاً بإشارة النيابة العامة، وصل الطبيب أحمد حسين المقداد (وهو يشغل منصب عضو في صندوق تقاعد نقابة الأطباء في بيروت) الى مخفر المصيطبة لإجراء الفحوصات. ويروي الشابان هنا أن الطبيب شرع بالفحوصات الشرجية، دون أن يعرّف عن نفسه أو عن صفته أو اسمه، ودون أن يتأكد من موافقة الأشخاص على إجراء الفحص. كما عمد أحد المحققين الى فتح باب الغرفة التي جرى فيها الفحص بين الفينة والأخرى أثناء إجرائه، في انتهاك واضح لما يفترضه من خصوصية. وعند انتهاء الطبيب من إجراء الفحوصات، لم يعلم الشابين بالنتيجة التي توصل اليها، رغم أنها كانت سلبية كما نقرأ من التقارير الخمسة التي تضمنها ملف التحقيقات. وقد نصت هذه التقارير على الآتي: “الموضوع: وضع تقرير طبي شرعي وتحديد ما إذا كان هناك لواط أم لا، وبعد الكشف على المدعو (…) من قبلي شخصياً، تبين ما يلي “لا آثار لتكوم أو تمزق أو احمرار في أو حول منطقة الشرج، كما أنه ليس هناك من شكل قمعي، العصارة الشرجية تعمل بشكل طبيعي. خلاصة الموضوع: ليس هناك من آثار حالياً تدل على حدوث لواط”.

ويبدو أن النيابة العامة لم تقتنع بما خلصت اليه هذه التقارير، فعادت وأعطت إشارتها بالاستماع مجدداً الى العاملة في الخدمة المنزلية والى ناطور البناية. وتوسع النيابة العامة في التحقيق هنا إنما يظهر مجدداً مدى قناعتها بخطورة هذا الجرم الى حد تكرار الاستماع الى إفادات الشهود أنفسهم. كما أنه يؤشر الى وجود قناعة لديها بأنه ليس للفحوصات الشرجية أي قيمة ثبوتية وأن مبرر اللجوء اليها هو تخويف المشتبه بهم أملاً بانتزاع إقرار على واقعة يصعب التثبت منها، أكثر مما هو الحصول على دليل علمي مستحيل. وعليه تم استدعاء العاملة في الخدمة المنزلية التي جرى الاستماع اليها دون وجود مترجم/ة محلف/ة: وهنا، نسجل تناقضاً هاماً بين محضر فصيلة المصيطبة الذي يفيد أن العاملة لا تجيد اللغة العربية ومحضر مكتب حماية الآداب حيث جاء أنها “تجيد اللغة العربية”. وقد عاد المحقق وسألها الأسئلة نفسها التي سبق وأجابت عنها، بالإضافة الى بعض التفاصيل الهامة التي لم تسأل عنها سابقاً مثل ساعة خلودها الى النوم. تبعاً لذلك، بدت النيابة العامة وكأنها اقتنعت بصعوبة إيجاد دليل على هذه الواقعة، فقررت ختم تحقيقاتها حول الحياة الشخصية لهؤلاء المشتبه فيهم والتي باتت بمثابة مقتطفات مأخوذة من دفاتر يومياتهم. وقد أشارت تالياً “بترك الموقوفين الخمسة لقاء سندات إقامة وختم المحضر”.

لكن يبدو أن نهاية القصة لم توثق في المحضر: فوفق ما أفادنا به الشابان، طلب منهما محققو مكتب حماية الآداب العامة التوقيع على تعهد أنهما لن يقربا أماكن “مشبوهة”  مثل الرملة البيضاء والروشة، كما أنهما لن يذهبا بعد اليوم الى شقة المشتبه فيه اللبناني، وأنهما يمتنعان عن التواصل معه. بل ينقل هذان الشابان قول المحققين لهما “إذا شفناكن مرة ثانية منعرف كيف منتصرف معكن”. وإذا صحت هذه الرواية التي ننقلها من دون الجزم بها، تكون الضابطة العدلية قد تولت صلاحية جديدة قوامها تنظيم حياة الأفراد المقيمين على الأراضي اللبنانية، واختيار الأماكن التي يحق لهم ارتيادها أو عدم ارتيادها، فضلاً عن الأشخاص الذين يحق لهم معاشرتهم أو عدم معاشرتهم، كل ذلك درءاً للشبهة وبمعزل عن أي دليل.
وكخلاصة، أمكن استخلاص الاستنتاجات الآتية:

–        أن ممثلة النيابة العامة أبدت شغفاً فائقاً في التثبت من العلاقات المثلية، فلم تجد حرجاً في تجاوز التعميمين الصادرين عن نقابة أطباء بيروت والنائب العام التمييزي سمير حمود، ومجمل ما أثير طوال أشهر في التخاطب العام (2012) حول بربرية الفحوصات الشرجية ومدى انتهاكها لحرمة الأشخاص وكراماتهم. كما لم تجد حرجاً في توقيف مشتبه فيهم ثلاثة أيام رغم اكتظاظ الزنزانات، في تجاوز لأصول المحاكمات الجزائية، وخصوصاً المادة 107من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تمنع توقيف الأشخاص على خلفية جرم لا يعاقب عليه بالحبس أكثر من سنة. كما لم تجد حرجاً في هدر جهود الضابطة العدلية في تحقيقات تتناول الحياة الشخصية للمشتبه فيهم من خلال الاستماع مرتين الى إفادات الشهود الأكثر اطلاعاً ربما على الحياة الحميمية (الناطور و”الخادمة”) بما يتعدى أي وقائع جرمية معينة،

–        أن الطبيب الشرعي المكلف لم يجد حرجاً في تجاوز للآداب المهنية والتعميم الصادر عن نقابته، فأجرى مجدداً فحصاً جماعياً لعدد من الأشخاص لا يمكن تبريره علمياً ولا إنسانياً، وفي شروط لا تتوافق وفق إفادات الأشخاص المعنيين مع ضمانات الخصوصية،

–        أن الضابطة العدلية بدت هي الأخرى وكأنها تستهين مخالفة الأصول كما يظهر من التناقض الحاصل بين المحققين لجهة إتقان “الخادمة” اللغة العربية، فضلاً عما نقله الشاهدان من ضرب وصفع وإهانة وتعرض للخصوصية وإرغام على توقيع تعهدات تحد من الحرية الشخصية ومن حرية التنقل،

–        أن هذا الملف يظهر مرة أخرى مدى خطورة المادة 534 عقوبات لما تتيحه من مجالات لانتهاك الخصوصية والكرامة الإنسانية، والأهم لإغراق المشتبه فيهم بالمثلية لسبب أو لآخر، في وضع هشاشة لم يعد من الجائز قبوله. كما أنه يظهر مرة أخرى، الحاجة الماسة الى إطلاق نقاش جدي حول العلاقة بين القضاء والقانون من جهة والفئات التي تعاني من غبن مزمن من جهة أخرى، والتي يسهل على ما يبدو استباحة حقوقها من دون حسيب أو رقيب.

نشر هذا المقال في العدد | 18 |حزيران/يونيو/  2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

أبعد من المحكمة الدولية،ماذا فعلنا للقضاء اللبناني؟ولماذا نحب الإستثناء؟

للإطلاع على ترجمة النص الى اللغة الإنكليزية، يمكنك الضغط هنا  

لمشاهدة الشريط المصور، يمكنك الضغط هنا

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات قضائية ، عمل منزلي ، الحق في الصحة ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني