القضاء “سافِراً”


2016-09-01    |   

القضاء “سافِراً”

مع الإعلان عن الحكم في قضية منال العاصي بتخفيف عقوبة زوجها المحكوم عليه بقتلها بوحشيّة إلى خمس سنوات سجنية، انطلقت موجة من المواقف المدنيّة والإعلاميّة والسياسيّة المندّدة به[1]. وفي هذا السياق، وبهدف الضغط على النيابة العامة لتمييز الحكم، تضافرت جهود مدنيّة عدّة (تنظيم اعتصامين أمام قصر العدل، تنظيم عريضة، تصوير فيلم قصير، …). كما خصّص عددٌ من المحطات التلفزيونية والصحف العديد من فقراتها، ومنها افتتاحيات أخبار الساعة الثامنة مساءً، لتبيان المآخذ على الحكم والمطالبة بالطعن عليه. بدورها، خصصت “المفكّرة القانونية” غلاف عدد تموز للموضوع المذكور تحت عنوان ذي دلالة (عودة البطل)، والذي يقصد منه عودة الفتوة وقيم الإستقواء على الفئات المستضعفة، وفي مقدمتها النساء. ولم يقتصر الأمر على النشاط المدنيّ، إنما توسّع ليشمل حركات سياسيّة في سابقةٍ قد تكون الأولى من نوعها. فمن جهة، عقدت مفوضيّة العدل في “الحزب التقدميّ الإشتراكي” لقاءً مع الهيئات الشبابيّة والحقوقيّة والنسائيّة في أكثر من عشرة أحزاب. وقد أكد المجتمعون في ختامه “رفضهم الكامل والمطلق لأيّ اجتهاد أو مسار يعيد العمل بجريمة الشرف وتكريسها واقعاً بعدما عُدِّلت قانوناً”، مستغربين “وقوف النيابات العامة موقف المتفرّج والمتراخي في أخذ الدور المناط بها لتمثيل المجتمع ومصالحه” (16-8). ومن جهة أخرى، وجّه النائب سامي الجميل كتابين لوزير العدل ولمجلس القضاء الأعلى، داعياً إياهما لإعادة الإعتبار لصورة القضاء اللبناني وإحقاق الحقّ في قضية منال العاصي (17-8). وكان وزير العدل أشرف ريفي قد اضطرّ تحت وطأة الضغوط  الشعبية على مطالبة النيابة العامّة التمييزيّة بتمييز الحكم إذا رأت أن هنالك أسباباً قانونية تسمح لها بذلك.

“رسالة” المجلس الجديدة للقضاة: تصرّفوا بحيطة في القضايا الإجتماعية
إزاء ذلك كله، وفيما لزم القضاة الذين أصدروا الحكم الصمت عملاً بالأعراف القضائيّة، كان من اللافت أن المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى امتنع عن اتخاذ أي موقف في هذا الخصوص. مجرد مقارنة هذا الصمت مع مواقفه في قضية أخرى مماثلة (قضية رلى يعقوب)، تبيّن التحوّل الحاصل على صعيد النقد الإعلاميّ للأحكام القضائية. ويجدر التذكير هنا بأن المكتب الإعلاميّ كان قد انبرى في بيانين متلاحقين (كانون الثاني 2014) للدفاع عن القرار الظنيّ الصادر في تلك القضية بتبرئة الزوج من التسبّب بموت زوجته. عبّر في هذين البيانين عن رفضه أن يتناول الإعلام القرارات القضائية “خارج أطر المراجعة المكرسة قانوناً في وقتٍ لا يزال فيه القرار خاضعاً لطرق المراجعة”، وأن يتم استعمال الإعلام “وسيلة ضغط للتشويش على حسن سير العمل القضائيّ”. ولم ينسَ المجلس آنذاك تضمين بيانيه عبارته الشهيرة بأن “قضاة لبنان يتباهى بهم العالم”[2]. بداالمجلس من خلال لزومه الصمت في قضية العاصي وكأنه بات أكثر حذراً في زجّ نفسه في الدفاع غير المشروط عن القضاة إزاء الانتقادات الموجهة إليهم، مخافة أن ينعكس موقفه ذلك سلباً على القضاء برمته.

بنتيجة ذلك، شكّلت هذه القضية مؤشراً هامّاً للقضاة على حصول تحوّلٍ أساسيّ في مقاربة أحكامهم التي بات يمكن أن تحظى بنقاشٍ إجتماعيّ واسع، يضع أشخاصهم ومواقفهم واجتهاداتهم موضع مساءلة قد تطبع تاريخهم القضائيّ برمته. وفيما كان القضاة قد تلقّوا سابقاً رسائل عدة على وجوب تجنّب أي مسّ بمصالح النظام الحاكم تحت طائلة التهميش الوظيفيّ (شكّلت حادثة القاضي جوني قزي التي نعود إليها أدناه رمزاً على ذلك)، إذا بهم يتلقّون مع قضية العاصي تحذيراً من نوع آخر، وربما مناقضاً، مفاده وجوب التعاطي بحكمةٍ وحيطةٍ مع القضايا الإجتماعيّة، أقلّه القضايا التي باتت تحظى باهتمامٍ واسعٍ لدى الرأي العامّ.

وفضلاً عمّا يؤدي إليه هذا التحوّل على صعيد تعزيز المساءلة الإعلاميّة، فمن شأنه أيضاً، وبشكل خاصّ، أن يضع حدّاً لهيمنة التيار المحافظ داخل القضاء، وأن يفتح مجالاً واسعاً لتطوّر التيارات الأكثر انفتاحاً على القضايا الإجتماعية ومناصرة لها. وعليه، فيما انتهى العديد من الإجتهادات القضائية الرائدة بسلسلةٍ من التدابير القمعيّة الآيلة إلى نقضها وتهميش القضاة الذين أصدروها، بات التوغّل الإجتماعيّ في الشأن القضائيّ قادراً على تأمين حماية أكبر لهؤلاء، وربما جعلهم مثالاً يحتذى في ممارسة الوظائف القضائية. وقد تعزّز ذلك طبعاً مع اضطرار النيابة العامة التمييزيّة على الاستجابة لمطالب الطعن على الحكم.

الدرس في تجربة جوني قزي: فصل المسارات الاجتماعية عن أعمال القضاء
لإدراك أهميّة هذا التحوّل، تكفي إستعادة المنحى الذي أخذته قضية سويدان الشهيرة، بعدما توسّعت المحكمة الإبتدائية في المتن (برئاسة القاضي جوني قزي) في منح الجنسيّة لأولاد لبنانيّة من زوجٍ مصري متوفّ، خلافاً لتوجهات السلطات الحاكمة (2009). وأبرز ما في هذه القضية أنها شهدت آنذاك نشوء إحدى أبرز الثنائيات في تاريخ القضاء اللبنانيّ، وهي ثنائية انتهت سريعاً بهيمنة أحد طرفيها. فمن جهة، رئيس المحكمة قزي الذي بات رمزاً للقاضي الذي يسعى من خلال اجتهاده إلى تعزيز منظومة العدالة وحقوق الإنسان، ومن جهة أخرى رئيسة غرفة محكمة الاستئناف الناظرة في استئناف القرار المذكور ماري دنيز المعوشي والتي باتت تمثّل القاضيّ الكلاسيكيّ الذي يلتزم بحدوده وبخدمة “القانون”، وعملياً المشرّع الذي يضعه self-restraint. إذ بينما عمد القرار الإبتدائيّ إلى تفسير قانون الجنسية على ضوء مبدأ المساواة بين الجنسين المنصوص عليه في الدستور ومبادئ القانون الدولي وشرعات حقوق الإنسان التي أقرّها لبنان، ذهبت محكمة استئناف جبل لبنان في الإتّجاه المعاكس تماماً، أيّ في اتجاه تجريد القضاة من أيّ صلاحية في استخدام أيّ من هذه القواعد في تطبيق القوانين[3]. ولم تجد المعوشي آنذاك حرجاً في القول بأن القاضي فقد بعد إنشاء المجلس الدستوري حقه في استبعاد قانونٍ داخليّ على خلفيّة تعارضه مع معاهدة أو اتفاقية دولية. ويعكس هذا التفسير موقفاً استثنائياً من شأنه أن يجرّد المحامين ومعهم الناشطين من أهم سلاحٍ قانونيّ في نصرة القضايا الإجتماعيّة (أعني المواثيق الدولية لحقوق الإنسان). والأهم، يجعل القاضي أسير القوانين التي يريدها المشرّع، وتالياً خادمه، بعدما أغلقت أمامه أبواب الاجتهاد.
استكمالاً لذلك، اتخذت المنظومة السائدة تدابير بحق القاضي قزي نفسه، بدأت بنقله من دون رضاه إلى موقعٍ يصعب عليه الإجتهاد فيه، وتكلّلت بمنعه من التدخّل في الندوات، وبإحالته إلى هيئة التفتيش القضائي على خلفية الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تلقيه جائزة في مجال حقوق الإنسان في العام 2009. في المقابل، تبوأت القاضية المعوشي في غضون أشهرٍ من إصدار قرارها أحد أهم المراكز القضائيّة: رئاسة هيئة التشريع والإستشارات، وما زالت تحتله حتى الساعة. وإذ صفّق الإعلام ومنظمات المجتمع المدني لقزي عند إصداره الحكم، ساد صمتٌ مريبٌ حين توالت التدابير المتخذة ضدّه[4]. وقد عكس هذا الصمت مقاربةً مغايرةً للتفاعل الإجتماعيّ مع المسارات القضائية: كأنما تتمّ مقاربة أعمال القضاء على أنها أحداثٌ هامّة تجري بمعزل عن المسارات الإجتماعية، فنصفق لها أو ننتقدها، من دون أن يكون للإعلام أو المواقف الإجتماعيّة أيّ دورٍ في حمايتها أو صناعتها.

هذا هو بالضبط ما بدا مغايراً في ظل التخاطب العام في قضية منال العاصي، إذ تصرّفت جهات عدّة وكأنها شريكٌ أساسيّ في طلب النقض. وفيما نجحت مساعي السلطة في كبح نموذج القاضي قزي (من دون أن تقضي على شبحه نهائياً) وفي ترميم الهيمنة السائدة لنموذج القاضي الكلاسيكيّ، شهد التخاطب في شأن قضية العاصي منحى مختلفاً تماماً انتهى هذه المرة إلى انحسار النموذج المحافظ الذي بدا في حال تعارضٍ تامّ مع العدالة التي تطمح إليها قوى إجتماعيّة وازنة.

حرب الأحكام في 534: تجريد القاضي من إمكانية الإجتهاد
ثنائيةٌ أخرى بقيت حتى الآن أكثر خفوراً بالنظر إلى الحساسيّة الإجتماعيّة المتصلة بالقضية المعنية بها، وهي قضية معاقبة المثليين. نشأت هذه الثنائية بفعل الإنقسام القضائيّ الحاصل حالياً حول تفسير المادة 534 من قانون العقوبات، والذي عبّر عنه ثلاثة قضاة بقولهم بعدم جواز تطبيق عبارة “الجامعة خلافاً للطبيعة” على العلاقات المثلية[5]. وقد أخذت هذه الثنائية بعداً لافتاً بعد صدور الحكم الثالث في هذا الإتجاه، على نحو يمهّد لتحويل السابقتين الحاصلتين قبل سنوات إلى اجتهادٍ قابلٍ للتعميم، وتالياً إلى إسقاط المنظومة العقابية في هذا الخصوص. إزاء ذلك، بدت القوى المحافظة وكأنها تتهيأ لاتخاذ خطوات سريعة ضدّ هذا “التمرّد” منعاً لاتساع دائرته. فكانت الندوة التي عقدها “المركز الكاثوليكي للإعلام” حول ما أسماه “الشذوذ” الجنسيّ، وشارك فيها قاضٍ تم تقديمه على أنه ممثل عن “مجلس القضاء الأعلى” ليذكّر بواجب القاضي (الكلاسيكي) بتطبيق القانون الذي يجرّم المثلية بالعودة إلى رواية التكوين (آدم وحواء)[6]. وفي الإتجاه نفسه، أصدرت محكمة جنايات بيروت حكماً معللاً باعتبار المثلية جرماً، وذلك قبل حوالي أربعين يوماً من حكمها في قضية منال العاصي وتحديداً في 7-6-2016[7]. وقد بدا هذا الحكم في حيثياته وكأنه يردّ على جميع الحجج الواردة في الأحكام الثلاثة أعلاه في اتجاه تجريدها من أيّ مشروعية، تماماً كما حصل في قضية سويدان. واللافت هنا أيضاً أن محكمة جنايات بيروت بدت في حال انسجام تامّ مع محكمة استئناف جديدة، لجهة تجريد القاضي من إمكانية تطبيق مواثيق حقوق الإنسان، وتالياً من إمكانية الاجتهاد. فهذه المواثيق تتوجه، بحسب المحكمة، إلى المشرّع حصراً، وعليه أن يعدّل القوانين من دون أن يكون القاضي بحال من الأحوال مخوّلاً بتطبيقها مباشرة. وبالطبع، تجد القوى الإجتماعية الإصلاحية هنا أيضاً نفسها أمام إستحقاقٍ هام، قوامه الدفاع عن حرية القضاة في الإجتهاد في مواجهة الخطاب الهادف إلى حرمانهم وحرمان المجتمع برمّته منها. فبقدر ما تنجح هذه القوى في حماية هذا الحق من خلال الخطاب العام أو الخطاب داخل المؤسسات القضائية، بقدر ما تسمح لهذا “التمرّد” بأن يتّسع في اتجاه فرض ثنائية متصاعدة يصعب على التيار المحافظ إنهاءها أو حسرها، ويؤمل طبعاً أن تنتهي إلى غلبته (أي غلبة حقّ القضاة بالإجتهاد لصالح المجتمع).

احتكام القضاء إلى الرأي العام في مواجهته مع “السياسيّ”
في موازاة النقاش الحاصل في هذه القضايا الإجتماعية، تجدر الإشارة إلى حدثٍ هامّ لا يقل دلالة، يتّصل ببعدٍ آخر وهو مدى استعداد القاضي لتجاوز حذره إزاء الطبقة السياسية ومصالحها تمهيداً للمضي في مكافحة فساد الإدارات العامة. هذا ما تكشفه بشكل خاص قضية مزايدة مواقف المطار. فبعدما تصدّى مجلس شورى الدولة للتلاعب في نتائج هذه المزايدة فأصدر قراراً بإلغائها، قرر رئيسه شكري صادر الإحتكام إلى الرأي العام بعد إمتناع الإدارة عن تنفيذ قرار المجلس. وعليه، ارتضى الرئيس صادر الظهور مرتين متتاليتين في أخبار المساء لمحطةLBC  الأكثر مشاهدة، ليتهم الطبقة الحاكمة بعدم تنفيذ الأحكام على نحو يتهدّد عمل المؤسسات والخزينة العامة[8]. وما يزيد من دلالة هذه المواقف، هو صدورها عن قاضٍ غالباً ما عكست اجتهاداته وآراؤه تحفظاً في الدخول في مواجهة مباشرة مع الطبقة الحاكمة. ومن أهم هذه المواقف، توسعه في ردّ الدعاوى على أساس أنها دعاوى شعبية، على نحو أدّى عمليّاً إلى تحصين عدد هامّ من القرارات المخالفة بداهةً للقانون إزاء الرقابة القضائية[9]. فجاء موقفه الجديد بمثابة مؤشر على تحول لدى بعض القضاة الأكثر تحفظاً. ومن المؤشرات الهامة على هذا التحوّل أيضاً، الغضب الذي عبّر عنه وزير الأشغال العامة والنقل في مؤتمره الصحافي المنعقد في 17-8-2016، والذي بدا وكأنه لا يصدق أن بإمكان قاضٍ أن يواجهه على هذا النحو. ومن المعبر هنا قوله أنمشكلته “ليست مع العدل، بل مع بعض الذين يظنون أنهم رجاله..وكأنه بذلك يفرز رجال العدل ضمن فئتين: فئة أولى، تدخل ضمن تصنيف العاملين في العدل وتضمّ القضاة الذين يتعايشون وينسجمون مع الخطوط الحمراء للطبقة الحاكمة أو على الأقل يعرفون حدودهم فيتجنبون تلقائياً أيّ مواجهة قضائية أو إعلامية مع أعيانها. وفئة ثانية، لا تستحق أن تكون من “رجال العدل” وهي تتكون من القضاة الذين أخلوا بموجب التحفّظ ليواجهوا في أحكامهم جهاراً السلطة الحاكمة. فانخراطهم في هذه المواجهة تظهر بحسب الوزير انحيازهم ضد الإدارة العامة، مما يبرّر لها إذ ذاك تجريد قراراتهم من مشروعيتها والمجاهرة في الإمتناع عن تنفيذها. فكأنه يستمد مما يعتبره تمرّد قاضٍ على سياسيّ مشروعيةً لإعلان تمرّده على القضاء. وعلى الرغم من أن الردود الإجتماعية والإعلامية على هذا الأمر فائق الخطورة لا تزال محدودة، إلا أن حدّة المواجهة تظهر بشكلٍ واضح أهمية التحول الحاصل لجهة احتكام القضاء إلى الرأي العام في مواجهته مع “السياسيّ”، وهو تحوّل ستكون له بالضرورة في تعليقات النقاد القضائيين (و”المفكرة” من بينهم) أهمية فائقة في وصف العلاقة بين القضاء و”السياسيّ”، وخصوصاً في سعيه إلى تعزيز دوره أو مكانته.

قضية “إغتصاب” إبتسام: منزلقات العلاقة بين الإعلام والقضاء
في موازاة التفاعلات الحاصلة في هذه القضايا والتي بيّنت تعزيز حضور الأحكام القضائيّة في الإعلام وما يستتبعها من آثارٍ إيجابيّة على صعيد القضايا الإجتماعية، كانت هناك قضية قضائية أخرى استفزت تغطيةً إعلاميةً لافتةً، وهي قضية “إغتصاب” الطفلة ابتسام في طرابلس، التي جاءت بمثابة علامة استفهام كبرى. ملخّص هذه القضية أن فتاةً ادّعت على ثلاثة شبّان بالتوّرط في اغتصابها جماعياً، لتعود وترجع بعدها عن إفادتها للقول بأن المجامعة حصلت برضاها. بمعزلٍ عن صحّة الإدعاء أو الرجوع عن الإدعاء، فإن القضية تكشف مدى معاناة المرأة بما يتصل بخصوصياتها. فأن يكون الادعاء صحيحاً، يعني إن الرجوع عنه يكشف حجم الضغوط التي قد تتعرّض لها المرأة للتنازل عن حقوقها. وإن كان الإدعاء غير صحيح، فإن تقديمه يكشف مأساة المرأة التي قد تجد نفسها عاجزة عن تحمّل عبء حريتها الجنسية. لكن، مهما يكن، فإن الإعلام أبدى عموماً إنحرافاً في التعاطي مع هذه القضية، بحيث ارتكبت وسائل عدّة خطأين لا يقل واحدهما خطورة عن الآخر:
الأول، انتهاك قرينة البراءة من خلال توجيه إدانة صريحة للشبّان المدّعى عليهم ونشر صورهم، وقد أعقب ذلك وفاة والدة أحدهم بفعل الصدمة. وقد أظهرت هذه الوفاة أن من شأن انتهاك قرينة البراءة أن يقتل. ورغم فداحة هذا الأمر، فإنه لم يستوقف أيّاً من وسائل الإعلام. وبدلاً من أن تؤدي نقابة المحامين في طرابلس دوراً تصحيحياً بصفتها مؤتمنة على حق الدفاع، اندفع النقيب فهد المقدّم نحو اتّخاذ موقفٍ شعبويّ مزايد على مستوى انتهاك قرينة البراءة. فلم يكتفِ النقيب في إدانة الشبان باستباق محاكمتهم، بل ذهب إلى حدّ التلويح بوجوب حرمانهم من حقّ الإستعانة بمحامٍ. فكأنه جهدٌ ليس فقط لنقض قرينة البراءة، وإنما لتكريس قرينة معاكسة تماماً، قرينة الإدانة، والتي تصبح بفعل حرمانهم من حق الدفاع، غير قابلة للنقض. وفيما حرص قاضي التحقيق في طرابلس ناجي الدحداح على التوسّع في تفاصيل القرار الظنيّ تبريراً لموقفه بتبرئة الشبان من جرم الإغتصاب لتحوّل القضية إلى قضية شأن عامّ، فإنّ الإعلام لزم عموماً الصمت بعد صدور هذا القرار من دون أيّ نقدٍ ذاتيّ أو للقرار القضائيّ، إيجاباً أو سلباً. والأسوأ من ذلك، أن النقيب فهد استمر في توجيه أسهم الإدانة من دون أن يتكبد عناء الكشف عن أيّ من أدلته، ولم يتوانَ عن التهجّم على القرار الظني رغم اعترافه بأنه لم يقرأه[10].

أما الأمر الثاني الذي انزلق إليه الإعلام فهو نزع الخصوصية عن الطفلة، من خلال الكشف عن اسمها وتفاصيل الحدث الذي تعرضت له أو قرّرت أن تعيشه، ما سيؤدي إلى مفاقمة وصمها والأضرار التي تكبدتها حتى الآن.
أهمية هذه القضية أنها تأتي لتكمل الصورة في مرحلة تعزيز التفاعل بين القضاء والإعلام. ففيما أدّى ويؤدي الإعلام أدوراً هامّة في تصويب العمل القضائيّ وتعزيز التفاعل بين القضاء والمجتمع، بيّنت ممارسة بعض وسائله المنزلقات التي قد تؤدّي إليها إساءة استخدامه. إذ تجاوزت مهمة النقد والرقابة والتصويب لتصل إلى حدّ استبدال المحاكمة القضائية بما تضمنه من أصول ضامنة من حق دفاع واحترام للخصوصية، بمحاكمة إعلامية غلب فيها طابع الإثارة والديماغوجية على أيّ شيء آخر. وبذلك، بدلاً من أن يشكل الإعلام عاملاً إضافياً وضماناً لتعميق النقاش في القضايا الإجتماعية وعقلنته، تراه يؤدي إلى نسف الضمانات القضائية وتعريض مصالح المتقاضين لمزيد من المخاطر والآراء المسبقة. هذه القضية تشكّل مناسبةً ثمينة يمكن للإعلام أن يتوقف عندها ليجري نقداً ذاتيّاً لضمان مصداقيته وتأكيد دوره في تعزيز دينامية تفاعله مع القضايا القضائية، التي نحن اليوم بأمس الحاجة إليها.
نشرت هذه المقالة في العدد |42|آب/أغسطس 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :

وزير يتمرّد على قرارٍ قضائيّ: هذا المطار لي

 

 



[1] عن هذا الحكم، يراجع المفكرة القانونية، العدد 41.
[2] نزار صاغية، العدالة لرلى يعقوب: درس في التفاعل الإيجابي بين الإعلام والقضاء، نشر على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية بتاريخ 13-5-2016.
[3] للكاتب، “محكمة الاستئناف تغلق ابواب الاجتهاد… ضد “النظام1 حزيران 2010.
[4] للكاتب، “لماذا تركنا القاضي الذي صفقنا له وحيداً؟”، الأخبار 28 أيلول 2010. وأيضا “استقلال القضاء وحق المرأة بالمساواة في معركة واحدة (1/2): حين أصبح عرض قضايا اجتماعية امام القضاء مرتبطا بالدفاع عن استقلاله، نشر على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية في 5-4-2012.
[5] لمى كرامة، “المادة 534 سقطت: المثليّة الجنسيّة ليست “مخالفة للطبيعة”، منشور في المفكرة القانونية، العدد 39، أيار 2016.
 [6]
[7] كريم نمور، الحكم على الهوية في محكمة جنايات بيروت، المثلية والخصوصية ورهاب محكمة النظام لهما، منشور في المفكرة القانونية، العدد 42، آب 2016.
[8] جويل بطرس، “وزير يتمرد على قرار قضائي: هذا المطار لي”، منشور في المفكرة القانونية، العدد 42، آب 2016.
[9] لمى كرامة، “شورى الدولة يرد دعوى “الموازنة العامة”: مفهوم “الدعوى الشعبية” كأداة لتحصين المخالفات الكبرى”، المفكرة القانونية، العدد 38، نيسان 2016. .
انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني