الاحوال الشخصية للطائفة القبطية: قانون من اجل قضية واحدة؟


2011-10-18    |   

الاحوال الشخصية للطائفة القبطية: قانون من اجل قضية واحدة؟

تبقى علاقة القوانين الدينية في لبنان بالقوانين المدنية في مجال الاحوال الشخصية من اكثر المواضيع دراسة في كليات الحقوق اللبنانية. الا ان ما تتشاركه معظم هذه الاعمال هو اهتمام شبه حصري بالنصوص القانونية وبالاجتهادات القضائية، وهي ترسم لنا عالما قانونيا لاعبوه شبه الاوحدين هم المشرع والقاضي، وحتى هؤلاء لا يسمع منهم الا كلماتهم الرسمية اي القانون والحكم. لكن ماذا اذا قلبنا المعادلة التحليلية، لكي يصبح القانون والحكم هما في ختام القصة لا في بداياتها؟ ماذا اذا قاربنا المادة القانونية من الاسفل الى الاعلى، فيصبح النص نتيجة لا سببا؟ وماذا اذا القينا الضوء على الصراعات والتفاعلات التي تعج بها طرق المحاكم والبرلمان والتي يبقى القانون فيها لغة يحكيها المتصارعون لا اكثر[1]؟ هل تتغير اذ ذاك صورة القوانين وعلى رأسها صورة قوانين الاحوال الشخصية في لبنان وكيف؟ هنا نعرض بشكل مختصر جدا حالة سيدة في محضر الطائفة القبطية وتشريعاتها الجديدة.
فمن الاعلى، القصة واضحة: قانون يصدر نهاية عام 2010، اي خمسة عشر عاما بعد اعتراف الدولة اللبنانية بالطائفة القبطية عام 1996. انتقادات قانونية عدة يمكن توجيهها لمضمون النص بما يخص مثلا حقوق المرأة والطفل، وكيفية صدور هكذا قانون اليوم في ظل تحولات قانون العائلة، وانتقادات اخرى لدولة سمحت بمرور كل هذه الفترة بلا قانون ينظم الاحوال الشخصية للمنتمين الى هذه الطائفة، ومن دون ان تضع قانونا مدنيا في هذا المجال. لكن بعد تسطير الفارق بين الواقع والمرتجى، بين ما نراه وما يقتضي ان نراه، لا نتعلم شيئا جديدا حول توقيت اصدار هذا القانون وحول طرق تحرك الطوائف واستراتيجياتها القانونية وهوامش تحرك الافراد امامها والدور الفعلي للقضاة في هذه اللعبة.
اما اذا نظرنا من الاسفل، فقصة اخرى تماما…
… سيدة لبنانية تتقدم في اوائل عام 2010 للمحكمة الابتدائية المدنية في بعبدا، الغرفة المختصة بقضايا الاحوال الشخصية، بطلب ابطال زواجها الديني المعقود امام الكنيسة القبطية في لبنان، وترفق طلبها بتقارير طبية تفيد بتعرضها للعنف، وهي تتهم زوجها بذلك، وهو ينكر. لماذا قضية زواج ديني من هذا النوع ترسو امام قاض مدني؟ من دون الدخول في التفاصيل، ما يجدر علمه على هذا الصعيد هو انه في ظل غياب قانون احوال شخصية لهذه الطائفة التي لم يعترف بها الا مؤخرا كما سبق بيانه، كان هناك “تفاهم” بين الكنائس الارثوذكسية القبطية والسريانية والارمنية لكي يتمكن “رعايا” كل من هذه الطوائف من اجراء معاملاتهم امام محاكم اي من الطوائف الاخرى، كما نقرأ في اوراق الدعوى. الا ان عدم وضوح هذا الاتفاق، وخاصة غياب اي سوابق قضائية بين المنتمين الى الطائفة القبطية، اوجد ثغرة وتاليا بلبلة بشأن المحكمة المختصة والقانون الواجب تطبيقه، ونتيجة لذلك، بقيت المدعية طوال سنوات في حالة ضياع حول “ما يجب ان تفعله” لكي تخرج من عالم قانوني يكون فيه “الزواج سهلا جدا والطائفة دائمة وسريعة الحضور لعقده”، فيما هي تختفي او تتلعثم عند بروز مشاكله والتي يصبح مجرد عرضها والنقاش فيها من اصعب المسائل. لكن كيف لجأت السيدة الى المحكمة المدنية ولماذا؟ وما صلة ذلك بقانون الاحوال الشخصية للاقباط ؟ ملاحظتان سريعتان على هذا الصعيد:
اولا، وبعكس الفرضيات الاولية التي توحي بأن اللجوء للمحاكم المدنية هو فقط نتيجة حسابات واستراتيجيات من قبل متقاضين يهربون من المحاكم الدينية وما قد يكون فيها من اجحاف، يظهر التحقيق الميداني مع الاشخاص المعنيين بهذه القضية ان علاقة الفرد بالمنظومات القانونية المختلفة هي اكثر تعقيدا وغموضا، وهي تخضع مع الوقت لتحولات تدريجية، خاصة على صعيد “الوعي القانوني”[2] و تصور المواد والانظمة القانونية من قبل المتقاضين العاديين. فقد حصل هنا لجوء تلقائي عفوي الى المحاكم او السلطات الدينية، من قبل افراد ليسوا متدينين ولهم حتى التزامات علمانية، كما هي الحال في هذه القضية. الا ان التفاعل الاولي مع السلطات الدينية يخلق صدمة معرفية عند المتقاضي وتباينا كبيرا في التوقعات القانونية بين خطابات حقوق المرأة والطفل التي تحتل حيزا هاما من المساحة العامة اليوم وخطاب السلطات الكنسية: “كنت اكلمهم عن عنف وحقوق وانتهاكات، وكانوا يكلمونني عن صلبان و صبر و ايمان”، او :” كنت عالقة بين مشاكل الزواج والاولاد والمبيت، واسالهم كل فترة: ماذا افعل؟ ما هو الحل؟ ويقولون لا ندري، لا قانون، فاصبري، او اذهبي الى مصر، فقلت هذا يكفي”. وهكذا، يظهر ان الانتقال من عالم قانوني اللاعب الاوحد فيه هو السلطات الكنسية، الى عالميكتشف فيه الفرد حلولا قانونية اخرى غير دينية، قد استغرق سنوات عدة، اجتاز خلالها الكثير من التباينات والتصادمات الرمزية. و قد لا يتم هذا التحول ابدا في حالات اخرى.
ثانيا،  تبقى هذه القضية مثيرة للاهتمام اذ ان المتقاضية وجدت نفسها لفترة طويلة بدون قانون يطبق على حالتها (بغض النظر عما تنص عليه  قواعد الاختصاص التي لا يتقنها سوى القانونيين، والتي يبقى المتقاضون بعيدين عنها في تعاملهم العفوي مع المواد القانونية). وفي ظل هذا الفراغ القانوني الظاهر، نرى كيف ان “البحث عن القانون” سرعان ما يتحول الى بحث عن اي قواعد اخرى يمكن ان تنظم وضع السيدة ومشاكلها، من قواعد دينية (“الدين لا يقول ما يقولون هم”) الى قواعد علمية (علم نفس) او سياسية (حقوق المرأة)، وما يرافقها من صياغات مختلفة ومتنافسة لنفس المسألة بغير لغة القانون، مما يسمح ايضا بتسليط الضوء على عمليات القطع والحساب التي تسمح القواعد القانونية بتوفيرها عادة (أحيانا بشيء من العنف الرمزي)، أو على الأقل بوضعها على مسار مختلف تماما.
ولكي نعود الى مسار القضية، اصدرت المحكمة الابتدائية قرارا في منتصف 2010 يقضي اولا، وبانتظار البت بالدعوى، بالطلب من السيدة المدعية “ابراز القانون القبطي الارثوذكسي المصري الواجب التطبيق”، وثانيا بايلاء حضانة الولدين “مؤقتا” لها مع اعطاء حق المشاهدة لزوجها، وثالثا الزام هذا الاخير بدفع نفقة شهرية قدرها الفا دولارا امريكيا، و هي قيمة نادرة في مجال النفقات في لبنان، وان خفضت قليلا في وقت لاحق. وقد نفذ الحكم امام دائرة التنفيذ بالرغم من اعتراض المدعى عليه لعدم اختصاص المحكمة المدنية. ولم تنقض فترة وجيزة (اسابيع) من صدور هذا القرار، الذي بدا للمعنيين بمثابة بداية انتصار للمنطق المدني على المنطق الديني (“القاضية فهمتني، و نظرت الى القضية من وجهة نظر انسانية”)، حتى صدر فجأة و بدون ابلاغ المدعية على حد قولها قانون احوال شخصية للطائفة القبطية في لبنان في الجريدة الرسمية، مما وضع حدا للثغرة القانونية التي سمحت للمحكمة المدنية بالتدخل، واعاد اللعبة بكاملها الى احضان الطائفة القبطية،  الامر الذي ادى الى تجميد الدعوى المدنية بشكل تام. وهكذا نرى كيف ان احتمال تدخل المحكمة المدنية في قضية مفاعيل زواج يخضع للطائفة القبطية فعل ما لم يفعله خمسة عشر عاما، اي منذ اعتراف الدولة بالطائفة القبطية، وما لم يفعله عشرة اعوام من معاناة سيدة وشكاويها.
وكحصيلة لذلك، تظهر صورة الاحوال الشخصية في لبنان بعيدة شيئا ما عن الجمود الذي نراه عندما نكتفي بدراسة القوانين من الأعلى بدون اللاعبين الذين يتعاملون معها ويسخرونها احيانا لمصالحهم، اذ نرى افرادا يبحرون بين الانظمة القانونية والمساحات القضائية، وقضاة مدنيين يحاولون سد ثغرات قوانين دينية حتى قبل إصدار أحكاما نهائية (أي بدون أن يلحظها دارسي الاجتهادات)، وطوائف ترد وتدافع عن سلطتها عبر استعمال العملية التشريعية من اجل محاولة حسم الصراع على العائلة اللبنانية وافرادها.

 

نشر ها المقال في العدد الثاني من مجلة المفكرة القانونية. لقراءة العدد اضغطوا هنا



[1]و ان كان لطبيعة لغة الصراعات اثر مهم على مضمونها و على شكلها، و لكن هذا بحث اخر…
[2]انظر مثلا اعمال سوزان سلبي “Legal consciousness“.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مجلة لبنان ، لبنان ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني