التمديد الثالث للمجالس البلدية والاختيارية؟ بين أنقاض الجنوب وأنقاض الديمقراطية


2024-04-17    |   

التمديد الثالث للمجالس البلدية والاختيارية؟ بين أنقاض الجنوب وأنقاض الديمقراطية
رسم رائد شرف

تقدّم النائب جهاد الصمد بتاريخ 15 نيسان 2024 باقتراح قانون معجل مكرّر يرمي إلى “تمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية القائمة حتى تاريخ أقصاه 31/5/2025”. وقد جاء الاقتراح خاليا من مذكّرة تعلّل اتّخاذه صفة الاستعجال المكرر كما ينص عليه النظام الداخلي لمجلس النواب.

يبرّر الاقتراح في أسبابه الموجبة تمديد ولاية المجالس البلدية التي تنتهي ولايتها في 31 أيّار 2024 بتعذّر إجراء الانتخابات نظرًا للعدوان الإسرائيلي الذي يطال “الجنوب والنبطية ومناطق بعلبك والهرمل والبقاع الغربي”، ما يؤدّي بحسب مقدّم الاقتراح إلى “إرباك سير عمل المؤسسات في هذه المناطق ويؤثّر على المناطق الأخرى وعلى قدرة المرشحين والناخبين بممارسة حقّهم ودورهم في الترشّح والاقتراع ويترك تداعيات تفقد هذه العملية أهميتها ودورها وديمقراطيتها”.

تضيف الأسباب الموجبة أن هذا التمديد يهدف إلى تجنّب حصول فراغ في المجالس البلدية، الأمر الذي يمسّ بمصالح المواطنين إذا ما حصل، ويعطّل “انتظام عمل هذه الإدارات المحلية”.  وتنتهي الأسباب الموجبة بالتأكيد على أن “مقتضيات المصلحة العامة” والحفاظ على “سلامة ونزاهة العملية الانتخابية” هي الركن الأساس لهذا التمديد المقترح.

إن هذا الاقتراح يستدعي الملاحظات التالية:

نحو التمديد الثالث…

لا بد من الإشارة بادئ ذي بدء أن التمديد المقترح لولاية المجالس البلدية والاختيارية، في حال إقراره، سيكون التمديد الثالث لهذه الهيئات التي تشكّلت بفعل الانتخابات التي حصلت سنة 2016. ففي العام 2022، تحجّجت السلطة بتزامن الانتخابات النيابية مع الانتخابات البلدية والاختيارية للتأجيل، ما يعني ابتزاز اللبنانيين ووضعهم أمام خيار التخلّي عن حقهم بالتمثيل المحلي للحصول على حقهم بالتمثيل السياسي. علمًا أن المفكرة القانونية أشارت حينها، بالاشتراك مع عدد كبير من المؤسسات الحقوقية وهيئات المجتمع المدني، إلى تلطّي السلطة خلف ذرائع واهية من أجل تعطيل هذا الاستحقاق الانتخابي الذي يعتبر حقا دستوريا للمواطنين.

أمّا التأجيل الثاني قد حصل سنة 2023 عندما صدّق مجلس النواب مجددا على اقتراح قانون معجل مكرر مقدم من النائبين سجيع عطية وجهاد الصمد، يرمي إلى تمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية. لكن هذه المرّة تم التأجيل تحت ذريعة عدم صرف الاعتمادات اللازمة لإتمام العملية الانتخابية، وعدم القدرة اللوجستية والبشرية للقيام بها لتزامنها مع إضراب الموظفين العامين، وعدم استعداد الأساتذة لمراقبة الانتخابات. وقد كرّر القانون بذلك مخالفة مبدأ دورية الانتخابات ضاربًا الأسس الديمقراطية بعرض الحائط، بذرائع كان يمكن للحكومة أن تترقبها وتستعدّ لها إن وُجدت النية. بموجب هذا القانون، تمّ حينها تمديد الولاية إلى تاريخ “أقصاه” 31 أيّار 2024.

أمّا اليوم، فيطّل علينا مجددًا النائب جهاد الصمد ولكن هذه المرة منفردًا باقتراح قانون معجل مكرر يرمي فيه إلى إحداث تمديد ثالث لولاية المجالس المحلية حتّى تاريخ “أقصاه” 31 أيّار 2025. يستعيد هذا الاقتراح نصّ الاقتراح السابق، ويعدّل في الأسباب الموجبة فيردّ استحالة القيام بالعملية الانتخابية إلى الحرب الدائرة في بعض المناطق اللبنانية.

هل إسرائيل تهدي السلطة الحجّة المثالية للتمديد؟

قد تبدو الحرب الدائرة بين حزب الله واسرائيل في بعض المناطق اللبنانية وخصوصًا في محافظتي الجنوب والنبطية الحجّة المثالية التي تتيح التمديد الثالث للمجالس البلدية، حيث أن القصف الإسرائيلي المتواصل على بعض قرى الجنوب ألحق بها تدميرًا كبيرًا وتهجيرًا لسكانها، بالإضافة إلى الضربات الممتدة إلى مناطق أخرى بقاعية وصولًا إلى الهرمل، ما يحرم البلاد من الجو المؤاتي للقيام بالعملية الانتخابية.

إلا أن التدقيق في هذه الأسباب يبيّن عدم استقامتها في تبرير إلغاء الاستحقاق على كامل الأراضي اللبنانية، إذ إنّه من الممكن تأجيل الانتخابات جزئيًّا، في المناطق التي تشهد الأعمال الحربية، واتمامها في المناطق الأخرى التي تنعم حتى الآن بالاستقرار والتي تستمر فيها الحياة بشكل شبه طبيعي. 

وبالعودة في التاريخ، فقد حصلت سابقة في هذا الصدد سنة 1997 عندما صدّق المجلس النيابي على قانون[1] ينصّ على إجراء الانتخابات البلدية في الأراضي اللبنانية “باستثناء القرى والمدن الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي”. وأضاف القانون أنّه “على الحكومة أن تدعو لإجراء انتخابات بلدية لهذه المدن والقرى الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي خلال مدّة ثلاثة أشهر من تاريخ زوال الاحتلال”، ما أدّى إلى إتمام العمليّة الانتخابية سنة 1998 باستثناء المناطق المحتلّة.

وبالفعل، بعد زوال الاحتلال الاسرائيلي، أقيمت العملية الانتخابية في 9 أيلول 2001 أي مع تأخير برّرته الحكومة حينها بالصعوبات الناتجة عن سنوات الاحتلال، ما أعفى البلديات جميعها من تعطيل الحياة الديمقراطية فيها بسبب وضع استثنائي قائم في منطقة معينة.

لذلك، وبالنظر إلى الواقع المفروض على الجنوب اللبناني اليوم وإلى الوضع الاستثنائي الدّائر فيه، فإنّه كان من الأجدى بالحكومة قبل المشرّع أن تتقدّم من مجلس النواب بمشروع قانون يُتيح تأجيل الانتخابات البلدية والاختيارية في محافظتيْ الجنوب والنبطية فقط، مفسحةً بذلك للحياة الديمقراطية أن تستمر في باقي أنحاء الجمهورية. وفي هذا الإطار، فقد أصدر وزير الداخلية بسام مولوي قرارًا بتاريخ 5 نيسان 2024 يحمل الرقم 335 يدعو فيه الهيئات الانتخابية البلدية في دوائر محافظة جبل لبنان لانتخاب أعضاء المجالس البلدية وذلك في تاريخ 12 أيّار 2024، ما يؤكّد على إمكانية تجزئة الانتخابات البلدية والاختيارية وإتمامها على مراحل، وما يدحض حجج إلغائها بأكملها.

اقتراح لا يأبه بقرار المجلس الدستوري

يعتري الاقتراح المقدّم إشكالية إضافية تكمن في استعماله كلمة “أقصاه” عند تحديده مدّة التمديد. إذ إن الاقتراح، بصياغته الحالية التي تقول بتمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية “حتى تاريخ أقصاه 31/5/2025” يطلق يد الحكومة في تحديد موعد الانتخابات باستنسابية كاملة ومن دون قيد أو شرط، وذلك ضمن المهلة الممتدة من تاريخ نشر القانون في الجريدة الرسمية وحتى المهلة القصوى المذكورة في متن نصّه.

إن هذه الصلاحية الممنوحة جزافًا من قبل المشرّع للحكومة قد كانت مجال بحث للمجلس الدستوري في قراره رقم 1 تاريخ 12 أيلول 1997، تناول فيه الطعون المقدمة بوجه القانون رقم 654 الذي أقرّ عام 1997، وهو قانون تضمّن أيضًا تمديدًا لولاية المجالس البلدية مع إعطاء الإمكانية للحكومة بإجراء الانتخابات قبل المهلة القصوى للتمديد. وقد أعلن المجلس حينها بطريقة واضحة أنّه “وبما أن المشترع قد مدّد بموجب القانون المطعون فيه ولاية المجالس البلدية واللجان القائمة بها استنادا إلى الأسباب الموجبة التي تقدّمت بها الحكومة وحدد المهلة القصوى لإجراء الانتخابات البلديّة في تاريخ أقصاه 30/4/1999 تاركا لها حق تحديد التاريخ الذي تجري خلاله هذه الانتخابات في الوقت الذي تراه وبالتالي تحديد موعد نهاية ولاية هذه المجالس، فيكون قد ترك للسلطة الادارية أمرا هو من صلاحيته المقررة له في الدستور وهي صلاحيات شاملة تتناول في ما تتناول، وضع القوانين المتعلقة بالانتخابات النيابية والمحلية والقواعد التي تجري على أساسها هذه الانتخابات والموعد الذي تجري خلاله، بما في ذلك تحديد ولاية المجالس المنتخبة”.

وبذلك، يكون مقدم الاقتراح قد أعاد تكرار المخالفة التي حصلت سنة سنة 1997 وسنة 2023، غير آبه باجتهاد المجلس الدستوري، مقترحا السماح للحكومة بشكل اعتباطي في تحديد موعد الانتخابات، بينما هي صلاحية تعود حصرًا إلى المجلس النيابي، ما يؤدّي إلى عدم وضوح في العملية الانتخابية لناحية تاريخها، ويفتح المجال أمام الحكومة بأن تحدد هذا التاريخ ليس انطلاقًا من اعتبارات موضوعية بل من مصالح سياسية خاصة أو خدمة لمرشحين على حساب آخرين.

الخشية من عودة الحالة الشاذة

جراء ما تقدم، يصبح من البين أن الاقتراح الحالي هو مخالف للدستور كونه يخرق مبدأ دورية الانتخابات ويعمم الوضع الاستثنائي القائم في بعض مناطق الجنوب على كل لبنان، بينما نظرية الظروف الاستثنائية تفترض أن الحالة الاستثنائية يجب أن تكون محصورة في المناطق التي تتعرض للعدوان وخلال مدة العدوان  حصرا، ما يعني إمكانية تأجيل الانتخابات في هذه المناطق على أن يتم الدعوة إلى الانتخابات فور زوال العدوان، بينما القانون يسمح للسلطة السياسية بتمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية لسنة كاملة، أي لفترة قد يكون خلالها العدوان قد انتهى بحيث تزول الحالة الاستثنائية ما يوجب إجراء الانتخابات فورا.

لكن هذه الحقيقة الدستورية لن تكون كافية لمنع حرمان المواطنين للسنة الثالثة على التوالي من انتخاب سلطاتهم المحلية كون المجلس الدستوري في قراره 6 تاريخ 30 أيار 2023 عالج هذه النقطة تحديدا عندما نظر في الطعن المقدم ضد قانون تأجيل الانتخابات سنة 2023 وخلص إلى نتيجة متناقضة. فعلى الرغم من أن المجلس أعلن صراحة حينها أن “حق الاقتراع، وبالتالي، حق المواطن في أن يكون ناخباً أو منتخباً، هو من الحقوق الدستورية ويجسّد المبدأ الديمقراطي الذي يرتكز عليه النظام الدستوري في لبنان، وله القيمة الدستورية نفسها سواء عند ممارسته على مستوى الانتخابات النيابة أم على مستوى الانتخابات المحلية” لكنه أضاف وفي استدارة عجيبة التالي: “وحيث إن دخول البلاد في وضع شاذ وغير مألوف، كما هو الحال في الوقت الحاضر، يملي على المجلس الدستوري أن يوازي بين الضرر الناجم عن المخالفة الدستورية والضرر الناجم عن الإبطال الذي يمس مبدأ استمرارية المرفق العام ذي القيمة الدستورية، حفاظا على مصلحة البلاد العليا التي وضع الدستور من أجلها”.

وهكذا، متذرعا بالوضع الشاذ رضخ المجلس الدستوري سنة 2023 للأمر الواقع وقرر عدم إبطال قانون التمديد الأمر الذي يمكن أن يتكرر مجددا في حال تمّ الطعن بالاقتراح الحالي بعد اقتراحه المحتمل جدا في الجلسة التشريعية التي دعا اليها رئيس مجلس النواب في 25 نيسان المقبل. ولا شكّ أن تمنُّع المجلس الدستوري عن إبطال قانون التمديد سنة 2023 شجع السلطة السياسية على تكرار  واستسهال هذه المخالفة، والاستمرار بابتزاز المجتمع عبر وضعه أمام خيار مستحيل: إما تأجيل الانتخابات أو تعطيل البلديات والمجالس الاختيارية وما يرافق ذلك من مسٍّ بمصالح المواطنين المشروعة.

خلاصة القول، باتت السلطة السياسية تبحث عن أي ذريعة تمكنها من تعطيل الحياة الديمقراطية في لبنان ومصادرة حقوق اللبنانيين، فحتى لو لم يكن الجنوب اللبناني يتعرض للعدوان الاسرائيلي لكانت السلطة الحاكمة قد وجدت ذريعة أخرى من أجل الوصول إلى النتيجة نفسها. وللمفارقة، فإن الحكومة الإسرائيلية، وفي ظلّ حربها الطاحنة مع حماس في غزة ومع حزب الله في جنوب لبنان، تمكنت من تنظيم الانتخابات البلديّة في أواخر شهر شباط الفائت علما أن هذه الانتخابات التي كانت مقررة في 31 تشرين الأول 2023 أُجّلت إلى كانون الثاني 2024 ومن ثمّ إلى نهاية شباط 2024، ما يظهر أن التأجيل حصل لفترة قصيرة جدًا على الرغم من الحرب الشاملة التي تشنها إسرائيل على غزة والضفة الغربية والدول المجاورة. فالحالة الاستثناية لا يجب أن تؤدي إلى تعليق الحياة الديمقراطية إذ أن أقوى رد على الاعتداءات الاسرائيلية يكون بتحصين منطق الدولة وتعزيز مشاركة اللبنانيين في مؤسساتها السياسية وسلطاتها المحلية وليس بحرمانهم من حقوقهم الدستورية.   

للاطّلاع على اقتراح القانون


[1] القانون رقم 665 تاريخ 29 كانون الأول 1997

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، إقتراح قانون ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني