تظاهرات 20 سبتمبر.. الاعتقال للجميع


2019-10-03    |   

تظاهرات 20 سبتمبر.. الاعتقال للجميع

شاب (32 عاما-عاطل) أتى من محافظة قنا في صعيد مصر، إلى القاهرة ليبحث عن عمل، بعد تراكم الديون عليه. ألقت قوات الأمن القبض عليه، قائلين له “هنكشف عليك وهنمشيك”. زُج به في السجن لفترة غير معلومة قبل أن يُعرض على النيابة. وُعد بالخروج من قبل رُتبة في الداخلية يُسميها “الباشا” لكنه ظل محبوسًا حافي القدمين، من دون أن يعلم السبب الذي قاده من باحات مسَاجد الميادين الكبرى إلى مكان لا يعلم به أيضًا، قبل أن يجلس إلى وكيل النيابة في جلسة تحقيق رسمية. يسأل الشاب وكيل النيابة “ماعرفش خدوني ليه، هو أنا عملت حاجة خطر؟” مردفًا “أنا مش عارف أنا عملت إيه يزعلكوا”.

ليست هذه سوى حكاية مُعتقل واحد ضمن قرابة 2000 شخص، بحسب المعلومات المتوافرة لدى المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في آخر تحديث له. وتختلف هذه القضية (1338 لسنة 2019 حصر أمن دولة) عمّا سبقها من قضايا مشابهة، نظرًا لضخامة عدد المُعتقلين بها، الذين قُبض عشوائيًا على الغالبية العظمى منهم.

تُعرف منظمة العفو الدولية الاعتقال التعسفي بأنه “اعتقال أشخاص دون سبب مشروع أو دون إجراء قانوني”. توضح شهادات المحامين/ات الذين تسنى لهم الحضور مع المعتقلين ضمن هذه القضية، أن غالبيتهم لم يرتكب جريمة، بالإضافة إلى أن آلية القبض لا تخضع لأي معايير واضحة، ولا تتمتع بأي ضوابط. الجدير بالذكر أن المحامين يكادون يكونون المصدر الوحيد للحصول على معلومات بهذا الشأن، نتيجة غياب القدرة الصحافية على التغطية الميدانية للأحداث.

فيما ترددت بعض الأخبار بالأيام الماضية عن إطلاق سراح عدد من المُعتقلين بدون العرض على النيابة، لكن هؤلاء المفرج عنهم غير معلوم عددهم، وكم يمثلون من إجمالي المعتقلين سواء المضمنة أسمائهم في قوائم المراكز الحقوقية أو المجهولين، في النهاية تبقى آلية اختيار المُفرج عنهم، غير واضحة، كما كانت آلية القبض عليهم في البداية.

سياق محكوم بقبضة أمنية وحالة طوارئ

بنظرة عامة على سير الأحداث، سنجد أن سياسة القمع هي نهج الدولة في التعامل مع أي نوع من أنواع المعارضة. يبدو هذا في مظاهر عدة، أبرزها القبض العشوائي، بالإضافة إلى توقيف المحامين وضمهم إلى القضايا التي يدافعون بها، أو فتح قضايا جديدة لنشطاء لا علاقة لهم بالحدث الجاري، وكذلك تكميم الصحافة والسيطرة على الإعلام وغلق المجال العام، وسن تشريعات قانونية تحدّ من الحريات؛ مع  استمرار فرض القبضة الأمنية، وتجديد حالة الطوارئ، مما يبيح توقيف المواطنين بدون أمر قضائي، كان فتحي ( 28 عاما) أحدهم. جُذب فتحي إلى داخل عربة تابعة لقوات الأمن من محطة “الإسعاف” بوسط العاصمة. ذهب ليبتاع ملابس تناسب ميزانية “عتال” بسيط من “الوكالة” منطقة مشهورة ببيع الملابس المستعملة، يريد أن يبدو بمظهر لائق في فرح ابنة صاحب المصنع الذي يعمل به. يعيش بحجرة مُلحقة بحمام، في بلدة أوسيم الريفية، لا يملك سوى سرير ينام عليه، وجسد يحمل فوقه حمولات المصنع. أمّي، لا يجيد القراءة أو الكتابة. لكن كل ذلك لم يشفع لاتهامه بنشر أخبار كاذبة من شأنها تكدير السلم العام وإثارة الفزع بين الناس وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة” الأمر الذي أجابه فتحي بارتعاشة وارتباك قائلًا “والله يا باشا أنا ماليش دعوة بالكلام، أنا على باب الله، أنا حتى جاهل ومش بعرف أكتب كلمتين على بعض”.

ينعكس هذا في مُجمله على مشهد تظاهرات العشرين من سبتمبر، وما تلاها، بما تضمنه قصة المُعتقل من مشاهد، تبدأ من لحظة التوقيف على خلفية شيء لا يعلمه، مرورًا بمرحلة الإخفاء القسري، وعملية البحث عنه في الأقسام والمُعسكرات والنيابات، ثم إدراجه في كُشوف المراكز الحقوقية لاحقًا، وفي حالة العثور عليه تبدأ دائرة التحقيقات والتجديد على ذمة القضية، ووصولًا لمشهد عربة الترحيلات ومُعاناة أهالي المعتقلين للاطمئنان على ذويهم. في ظل غياب المعلومات عن أي أسئلة مطروحة تتعلق بمصير المقبوض عليهم، حتى لدى من يفترض أنهم على دراية بصيرورة الموقف وعلى رأسهم المحامين ووكلاء النيابة.  أحد الوكلاء حقق مع موظف أمن سكندري في التظاهرات، بالرغم من عدم مشاركة الأخير في التظاهرات. خلال التحقيقات قال أنه رأى في هذه التظاهرات أملًا في زيادة راتبه (2000 جنيه مصري)، وهو يعيل أسرة مكونة من 6 أفراد، دون أن يضطر لمد يده لأكثر من مرة خلال الشهر، لتلبية حاجات بيته الأساسية من طعام وشراب. بكى تهمة انتظرته في النيابة وهي “الانضمام لجماعة إرهابية” مرددًا “أنا متهم بالفقر”. المُحقق غير المطلع على سبب اعتقال الموظف حاول طمأنته بكلمات في آخر التحقيق.

مُعتقلين بالجُملة في روايات المحامين

اتسمت حملة الاعتقال في هذه القضية بالعشوائية الشديدة، فبين سياسيين ونشطاء في المجال العام إلى أشخاص ليس لهم أي علاقة بالسياسة.

فعبد الرحمن وثائر شابان أردنيان أتيا إلى مصر للعمل والدراسة. وتم إيقافهما ضمن حملة تفتيش في وسط القاهرة في 28-9 ليتم القبض على ثائر، ثم يتم القبض لاحقاً على عبد الرحمن من بيته. ظهر الشابان لاحقًا في فيديو عبر برنامج تلفزيوني مصري، يعترفان بمشاركتهما في التظاهرات، يقول صديقهما أنه يبدو عليهما الخوف وأنهما يقرآن الاعترافات من ورقة، جاء هذا بعد طمأنة السفارة بأنهما سيفرج عنهما قريبا، فيما يقول أصدقاء لهما بأن وجودهما في مصر لا غرض سياسي ورائه، مرجحين تعرضهما للتعذيب أو الإرهاب.

أما عن الأطفال، فتشمل القضية 55 طفلا، وهو العدد المعلوم وفقًا لرواية المحامي محمد فرحات. من بينهم طالب بالصف الثالث الثانوي، من محافظة السويس. ألقي القبض عليه أثناء طريق عودته من درس الفيزياء إلى المنزل. بالرغم من محاولته تجنب سيناريو الاعتقال بمواصلة السير بوتيرة عادية، مانعا نفسه من الجري أثناء الاعتداء على بعض المتظاهرين في محيطه، حتى لا يُعتقد بانتمائه لهم. لم تجد توسلات الطالب “أنا معملتش حاجة، أنا طالب وخارج من الدرس على البيت” صدى لدى الشرطيين أثناء لحظة الاعتقال.

فتيات وسيدات بعضِهن مُسنات لقين نفس المصير في مواقع مُختلفة. تُقدر إحصاءات المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عددهم بنحو 85 أنثى. من ضمنهم لمياء (مُدرسة) تعيش في الكويت. في يوم الجمعة 20 سبتمبر ذهبت لحجز تذكرة عودة من شركة الطيران، فألقي القبض عليها. وفقًا لشهادة المحامي الذي حضر معها التحقيق، فهي مصابة بمرض السرطان، لم تحصل على العلاج الخاص بها لخمسة أيام متتالية منذ القبض عليها، تبعا لما نشر قبل أيام. لا تحتفظ في ذاكرتها بأي أرقام تلفونية لأولادها، منشورات الفيسبوك كانت الوسيلة الوحيدة للوصول إليهم، وإبلاغهم بمكان والدتهم.

كما تظهر العشوائية كذلك في حالة عبد الرحمن الذي اختفى لفترة، ليظهر لاحقاً ضمن المتهمين في القضية حسب المحامي محمد فتحي. فعبد الرحمن مريض اكتئاب مزمن منذ وفاة والده، ولديه ميول انتحارية. ولكن ذلك لم يشفع له لدى السلطات، التي أمرت بحبسه من دون مراعاة ظرفه الصحي وخطورته خاصة أن الرعاية الصحية غائبة في أماكن الاحتجاز.

تعذيب وسوء معاملة وانتهاكات أخرى

يرصد بيان المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وقوع العديد من الانتهاكات بالقضية. تضمن مخالفة بالإجراءات، تحقيقات جماعية، الإخفاء القسري، القبض على محامين أثناء تأدية عملهم، وخلافه. المحامون المدافعون عن المتهمين بالقضية نفسها يوثقون انتهاكات من السالف ذكرها، وانتهاكات أخرى مثل التعذيب، لم يؤتَ على الإشارة إليها في بيانات المراكز الحقوقية، أو سقطت سهوًا وسط التركيز على حصر أعداد المُعتقلين، والبحث عن المخفيين منهم، ولا يُمكن إغفال الخوف من الملاحقة ضمن هذه الأسباب.

يوضح تقرير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بالعام 2018، عن ظاهرة الاحتجاز التعسفي في ظل قانون الطوارئ، الاستثناءات المُخلة بالحريات العامة والشخصية، إلا أن ثمة حقوقا لا يجوز المساس بها حتى في ظل العمل بقانون الطوارئ، يأتي في مقدمتها “التحرر من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو غير الإنسانية أو المهنية”. بالمُخالفة لذلك تعرض أحد المُعتقلين وفقًا لرواية المحامي نبيه الجندي إلى السخرية من قبل وكلاء النيابة لكونه “معاق”؛ كما هدد المحقق الشاب ذاته، وتفوه بألفاظ غير لائقة.

إحدى المُحاميات نشرت نموذجا آخر لطفل لم يبلغ الثامنة عشر من عمره، تعرض للتعذيب والصعق بالكهرباء في يديه، خلفت حروق على أصابعه، أثناء فترة تواجده في أحد معسكرات الأمن داخل القاهرة. تقول المحامية في منشُورها المحذوف لاحقًا أنه كان خائفًا من الإشارة لذلك في التحقيقات حتى لا يعود تعذيبه مُجددًا. طلب الطفل من المحامية إبلاغ أهله بمكان تواجده على خلفية القبض العشوائي عليه، راجيًا إياها عدم ذكر ما تعرض له من تعذيب لمرض والده.

خاتمة

نلاحظ أن حملة الاعتقال هذه المرة لم تستهدف سياسيين أو مشاركين بالاحتجاجات الأخيرة فحسب؛ كما أوضحنا. كل ما نعرفه حتى الآن أن أيادي شُرطية أطلقت في شوارع وميادين مصر فأَحكمت قبضتها على من وجدته في طريقها، حتى وإن عجز منطق المُحققين أنفسهم عن تفسير سبب وجود مثل هؤلاء الأشخاص في مقر نيابات الجمهورية، ليواجهوا مصائر لا يُعلم في الغالب إلى أين ستودي بهم، وعدد السنوات التي سيقضونها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني