الشفافية في البرلمان التونسي: معركة مستمرة


2019-12-09    |   

الشفافية في البرلمان التونسي: معركة مستمرة

تبعا لثورة 14 جانفي 2011، نجح الحراك التونسي في قلب قواعد العمل في مجلس نواب الشعب، في اتجاه تعزيز الشفافية في نقاشاته. بإمكان الحراك اللبناني أن يستفيد اليوم من هذه التجربة، وبخاصة بما يتصل بعلانية العمل في اللجان النيابية (مطبخ القوانين)، أو بنقل مناقشات هذه اللجان أو الهيئة العامة للمجلس النيابي مباشرة بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا ما طلبناه ونطلبه بشكل عام وبخاصة بما يتصل بالقوانين المتصلة باستقلال القضاء أو بمكافحة الفساد. فلنتعلم من تجارب دول المنطقة (المحرر). 

أصبح التونسيون، بفضل الثورة، يختارون من يمثلهم في انتخابات نزيهة وديمقراطية. وأصبح بإمكانهم أيضا النفاذ إلى ما يجري داخل البرلمان في اللجان وفي الجلسة العامة. وقد أدت منظمات المجتمع المدني في تونس دورا كبيرا في ذلك، وخاضت معارك مهمة لتكريس الشفافية داخل البرلمان. ولكن، ورغم ما تحقق من خطوات، تبقى ثقافة التعتيم عائقا أمام تطبيق مقتضيات الشفافية التي كرستها النصوص القانونية، بالشكل الكافي.

معركة النظام الداخلي للمجلس التأسيسي

بعد تسعة أشهر من رحيل بن علي، ومخاض عسير عرف حكومات متعاقبة واعتصامات مطالبة باستقالتها، انتخب التونسيون مجلسا تأسيسيا لصياغة دستور جديد. بدأ المجلس الوطني التأسيسي أشغاله بمناقشة تنظيم مؤقت للسُلط، أو ما يعرف بالدستور الصغير، ونظامه الداخلي، لتبدأ من هنا معركة الشفافية.

فقد نظم مجموعة من الناشطين المدنيين والمدوّنين مبادرة تحت اسم الحوكمة المفتوحة (OpenGov)، لينضم إليهم عدد من النواب المقتنعين بالقضية. طالبت هذه المجموعة بالتنصيص صلب النظام الداخلي على علنية جلسات اللجان، ونشر كل أعمالها على الموقع الالكتروني، إضافة إلى نتائج التصويت. كما طالبوا بتأسيس قناة برلمانية تنقل كامل أشغال المجلس، جلسة عامة ولجانا. وجدت هذه المطالب معارضة من عدد كبير من النواب، خاصة المنتمين إلى الحزب الأغلبي آنذاك، حركة النهضة، حسب شهادة النائبة المؤسسة نادية شعبان التي انخرطت منذ البداية في مبادرة الحوكمة المفتوحة[1]. فقد اعتبر هؤلاء، ومنهم المقرر العام للدستور، الحبيب خضر، أن أعمال اللجان “ليست نهائية”، وأن نقل أشغالها مباشرة قد يؤدي إلى انتشار أخبار حول قرارات دون أن تكون قد استوفت مسار اتخاذها[2]. بل أن نفس النائب اقترح أن يتم منع استعمال الهواتف الجوالة في أشغال اللجان، لكي لا يعمد الحاضرون لنقل ما يجري على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أتى هذا المقترح بعد أن ساهمت تغريدة من أحد أعضاء لجنة النظام الداخلي المنتمين إلى المعارضة في التنبيه إلى محاولة حركة النهضة السيطرة على كل السلط عند مناقشة “الدستور الصغير”، مما أدى إلى احتجاجات كبيرة بدأت في العالم الافتراضي ووصلت للشارع[3].

بالتوازي مع مناقشة النظام الداخلي، أطلقت مبادرة الحوكمة المفتوحة حملة تحت اسم #حِلّ (أي افتح، باللهجة التونسية)، وساندها عدد من النواب برفع لافتات حاملة لهذا الشعار في جلسة التصويت. وفي النهاية، تمت المصادقة على علنية جلسات اللجان في الفصل 54 من النظام الداخلي، مع ترك الإمكانية لأغلبية أعضاء اللجنة أن تقرر سرية الاجتماع. كما نصّ الفصل 62 على نشر تقارير اللجان في الموقع الإلكتروني للمجلس، ولكن من دون وضع آجال لذلك. ولم يتضمن النظام الداخلي واجب نشر محاضر الجلسات، وهي التي توثق بالتفصيل ما دار من نقاش وتدخلات مختلف النواب، على عكس تقرير اللجنة الذي عادة ما يكون عامّا ومجرّدا. وعوض إنشاء قناة برلمانية، تعهدت التلفزة الوطنية بنقل أشغال الجلسة العامة مباشرة، فيما بقيت جلسات اللجان، رغم علنيّتها، لا تبث مباشرة على شاشة التلفاز. كما لم يتم التنصيص على نشر تفاصيل التصويت، رغم سهولة نشر التفاصيل بما أن العملية تتم الكترونيا.

جلسات اللجان علنية… للصحفيين فقط

مع بداية أشغال اللجان التأسيسية، تأسست منظمة البوصلة، بهدف رصد ومتابعة العمل البرلماني وإتاحة المعلومات حول النواب والمعطيات الضرورية لتقييم أدائهم. في البداية، لم يواجه ممثلو المنظمة إشكالا في حضور اجتماعات اللجان، إلى أن كشفوا معلومة حول موقف اتخذه أحد النواب، وتسبب بإشكالات بين كتل نيابية[4]. حاول بعض النواب آنذاك منع المنظمة من حضور جلسات اللجان، وابتدعوا تأويلا لعلنية الجلسات في النظام الداخلي يحصرها في الصحفيين. فوفّرت المنظمة بطاقات صحفيين لراصديها، مما سدّ الذرائع أمام النواب المعارضين للشفافية وسمح للبوصلة بمتابعة أشغال اللجان.

مكن وجود البوصلة ومتابعتها اليومية لأشغال مجلس نواب الشعب من إتاحة عدد كبير من المعلومات، فكانت تنقل ما يتم نقاشه في اللجان، وتنشر وثائق مهمة وتترجمها، وتنشر بالأخص تفاصيل التصويت وإحصائيات الحضور والغياب. لم يستسِغ عدد من النواب آنذاك متابعة البوصلة لغياباتهم، فاقترح المرحوم الطاهر هميلة منعها من الدخول للمجلس[5]، في حين ذهب النائب صالح شعيب حدّ اقتراح حلّ المنظمة بعد تنديدها بمعدلات حضور النواب المنخفضة[6]!

أما مكتب المجلس الوطني التأسيسي، فقد أصرّ على عدم نشر قائمات الحضور، رغم مطالبة منظمات المجتمع المدني بذلك وتقدمه بمطالب نفاذ للمعلومة. كما واصل المجلس حجب تفاصيل التصويت وأعمال اللجان، التي كان جزء منها يُنشر سواء عن طريق نواب منخرطين في مبادرة الحوكمة المفتوحة، أو عبر منظمة البوصلة. وصل الأمر بهؤلاء النشطاء إلى مقاضاة رئيس المجلس الوطني التأسيسي أمام المحكمة الإدارية، بسبب عدم استجابته لمطالب النفاذ للمعلومة وعدم التزامه بكل أحكام النظام الداخلي المتعلقة بالشفافية[7].

مكتسبات جديدة في النظام الداخلي… لا تطبق

ساهم ضغط منظمات المجتمع المدني وعدد من النواب في دفع المجلس إلى اتخاذ بعض الخطوات في اتجاه تكريس مزيد من الشفافية. ففي مارس 2013، تم تنقيح النظام الداخلي لينص على نشر محاضر جلسات اللجان في الموقع الالكتروني للمجلس في أجل شهر، وعلى نشر تقارير اللجان حول مشاريع القوانين حال المصادقة عليها، وعلى نشر قائمات الحضور في اللجان والجلسة العامة في أجل ثلاثة أيام. لكن، مرة أخرى، لم تتوفر الإرادة الكافية لتطبيق ذلك. إذ أن قائمات الحضور في الجلسة العامة لم تنشر سوى في خريف 2013، لتحتوي فقط معدلا شهريا لحضور كل نائب، فيما لم تنشر قائمات الحضور في اللجان أبدا، ولا محاضر جلساتها[8].
ورغم تنصيص النظام الداخلي في صيغته الأولى على مبدأ حضور المواطنين في الأماكن المخصصة لهم (أي الشرفة) لمتابعة الجلسات العامة مباشرة، وفق تراتيب يصدرها مكتب المجلس، إلا أن هذا الأخير ماطل في إصدار هذه التراتيب. وبذلك، كان المواطنون والجمعيات الذين يحاولون النفاذ إلى الجلسات العامة، دون مساعدة من النواب، يواجهون عراقيل كبيرة[9]. تواصل هذا الأمر إلى غاية الشروع في التصويت على الدستور. فقد دعا مكتب المجلس التأسيسي حينها الجمعيات المهتمة إلى طلب الحصول على اعتماد عبر موقعهم الرسمي، فتحصلت أكثر من 350 جمعية على اعتماد سمح لها بمتابعة أشغال المجلس مباشرة في تلك اللحظة المفصلية، لحظة المصادقة على فصول دستور الجمهورية الثانية[10].

لكن المجلس واصل عدم نشر تفاصيل التصويت، حتى على فصول الدستور رغم أهميتها التاريخية وسهولة ذلك تقنيا. فكانت منظمة البوصلة تنشرها انطلاقا من الشاشة الالكترونية بنقاطها الخضراء (مع) والصفراء (محتفظ) والحمراء (ضد)، وتسند كل نقطة للنائب المعني حسب مكان جلوسه. ولا زالت، إلى الآن، تفاصيل تصويت النواب والكتل على فصول الدستور ومختلف مقترحات التعديل متوفرة فقط في موقع البوصلة، ليرجع إليها الباحثون والمتتبعون، وحتى النواب أنفسهم.

تحسن بطيء في تطبيق مبدأ الشفافية في العهدة الأولى لمجلس نواب الشعب

مثل الدستور الجديد أساسا قويا للمطالبة بشفافية أكثر. فقد نصّ على الحق في النفاذ للمعلومة (الفصل 32)، وعلى خضوع الإدارة العمومية لمبدأ الشفافية (الفصل 15)، وكل ذلك “تأسيسا لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي” مثلما جاء في التوطئة.

انتخب التونسيون ممثليهم في مجلس نواب الشعب في أكتوبر من سنة 2014. وصاغ مجلس نواب الشعب نظامه الداخلي، واستمع لمنظمة البوصلة وأخذ بعدد من توصياتها. فنص النظام الداخلي الجديد مثلا على ضرورة نشر تفاصيل التصويت في ظرف 48 ساعة، كما تبنى مقتضيات نشر التقارير والمحاضر في آجال مضبوطة مثلما جاءت في تنقيح النظام الداخلي للمجلس التأسيسي.

لم يكن التطبيق سهلا ومستقرا. لكن منظمة البوصلة لاحظت في تقريرها للدورة البرلمانية الرابعة “خطوات إيجابية نحو المزيد من الشفافية”. تمثّل هذا التحسّن في اعتماد تقنية البث المباشر ((live streaming لعدد من جلسات اللجان. كان ذلك بعد أن بدأت البوصلة نفسها، بإمكانيات محدودة، بنقل اجتماعات اللجان على صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي. فدفعت هذه التجربة البرلمان إلى تجهيز قاعتين بكاميرا وبث أشغال اللجان التي تتم داخلها. لكن أكثر من ثلثي اجتماعات اللجان لا تبث مباشرة، نظرا لعدم تجهيز القاعات الأخرى بالمعدات اللازمة رغم أن الأمر سهل تقنيا وغير مكلف. بل أن المجلس تعمّد أحيانا عدم بثّ اجتماعات تمت في إحدى القاعتين المجهزتين، دون أي مبرر.

كذلك، عابت المنظمة على المجلس تنظيم اجتماعات للجان دون الإعلان المسبق عنها على موقع المجلس. ورغم التحسن الذي عرفته نسبة نشر محاضر الجلسات وقائمات الحضور، إلا أن معظم المحاضر تنشر بعد الآجال، رغم أن هذه الأخيرة كافية جدا، بل أطول من اللازم (شهر بعد موعد الجلسة).

عدم الاستجابة إلى مطالب النفاذ إلى المعلومة

صادق مجلس نواب الشعب، في شهر مارس من سنة 2016، على القانون الأساسي المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة. كان مشروع القانون الوارد من الحكومة، وبعد مصادقة اللجنة البرلمانية عليه، يتضمن استثناءات واسعة تُضيّق من هذا الحق. فاعتبرته منظمات المجتمع المدني مخالفا للدستور ويكرّس التعتيم على المعلومة. وخاضت الجمعيات ونقابة الصحفيين معركة من أجل حصر مجال الاستثناءات[11]. وبالفعل، تدارك النواب الأمر في الجلسة العامة، بعد ضغط منظمات المجتمع المدني، واستجابت النسخة النهائية للحدّ الأدنى الذي يكرس الشفافية ويطابق المعايير الدستورية لتنظيم الحقوق والحريات.

لكن هذا القانون وجد صعوبات في التطبيق، من بينها ضعف التزام عدد من الهياكل العمومية بأحكامه، سواء تلك المتعلقة بالنشر التلقائي لعدد من المعلومات، أو الاستجابة لمطالب النفاذ إلى المعلومة. إدارة مجلس نواب الشعب، مثلا، لم تستجب دوما لمطالب النفاذ إلى المعلومة، مما أدى بالطالبين في بعض الأحيان إلى اللجوء إلى هيئة النفاذ إلى المعلومة التي أنصفتهم وأقرت إلزام البرلمان بتوفير تلك المعلومات. ومن بين القضايا التي حسمت فيها هيئة النفاذ إلى المعلومة ضد مجلس نواب الشعب، قضية متعلقة بقائمة النواب المعنيين بمطالب رفع حصانة. فقد رفض المجلس الاستجابة إلى مطلب منظمة “أنا يقظ” للحصول على هذه القائمة، وتعلل بالإخلالات الاجرائية التي تعطل مسألة رفع الحصانة[12]، وبضرورة حماية المعطيات الشخصية للنواب المعنيين. كما استعمل المجلس حجة المعطيات الشخصية لرفض مطلب تقدمت به منظمة البوصلة للنفاذ إلى بطاقة أجر كمال الحمزاوي، وهو نائب ترشح للانتخابات البلدية وتم انتخابه فكان في حالة جمعٍ يمنعها القانون، ولم تتم إقالته من المجلس سوى بعد شهرين من ذلك. مرة أخرى، أقرّت هيئة النفاذ للمعلومة عدم صحة موقف البرلمان، وألزمته بإتاحة المعلومة للمنظمة، خاصة وأنها اقترحت حجب المعطيات الشخصية من بطاقة الأجر كرقم الحساب البنكي مثلا[13]. ولكن، في كل مرة، يستأنف المجلس قرار الهيئة لدى المحكمة الإدارية ولا ينفذه[14].

انتهت العهدة الأولى لمجلس نواب الشعب بحصيلة ضعيفة، سواء على المستوى التشريعي أو الرقابي أو الانتخابي. ورغم بعض الخطوات المنجزة في مجال الشفافية، كان بالإمكان أكثر بكثير مما كان، لولا ثقافة التعتيم التي تظهر خاصة في كيفية التعامل مع مطالب النفاذ إلى المعلومة.

في أكتوبر 2019، انتخب التونسيون برلمانا جديدا، بتركيبة تغيرت كثيرا بالمقارنة مع البرلمان السابق. ويتمتع مجلس نواب الشعب الجديد أيضا باستقلالية مالية وإدارية ماطل المجلس المتخلي كثيرا في تكريسها. وبالتالي، لم يعد بإمكانه استعمال نقص الامكانيات المالية والبشرية كمبرر لعدم الالتزام بمقتضيات الشفافية، خاصة وأن المسألة متعلقة، أولا وقبل كل شيء، بتوفر الإرادة والاقتناع.

 


[1] Nadia Chaabane, Chronique d’une constituante 2011-2014, Déméter Editions, 2018, p. 149

[3]  Nadia Chaabane, Chronique d’une constituante 2011-2014, Déméter Editions, 2018, p. 147

[4] أميرة اليحياوي، عين على المجلس التأسيسي، حوار مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الدستور التونسي، 2016.

[6] مركز كارتر، عملية صياغة الدستور في تونس – التقرير النهائي، ص. 70.

[8] مركز كارتر، عملية صياغة الدستور في تونس التقرير النهائي، ص. 74.

[9] نفس المصدر، ص. 71.

[10] نفس المصدر، ص. 72.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني