“دومينو” في دعاوى الكابيتال كونترول؟ محكمة المتن تلاقي محكمتي بيروت والنبطية


2020-01-13    |   

“دومينو” في دعاوى الكابيتال كونترول؟ محكمة المتن تلاقي محكمتي بيروت والنبطية

قرار جديد لمصلحة المودعين ضد الكابيتال كونترول الذي تفرضه جمعية المصارف بإرادتها المنفردة. القرار صدر هذه المرة عن محكمة المتن (قاضية الأمور المستعجلة رانيا رحمة) بتاريخ 9 كانون الثاني 2020، وقد آل إلى قبول دعوى أحد المودعين بإلزام المصرف اللبناني السويسري بإجراء عملية تحويل مالي للخارج. وقد توصلت القاضية رحمة إلى هذه النتيجة بعدما اعتبرت أن رفض إجراء هذه العملية إنما يشكل تعديا صارخا وواضحا على حقوق المودع المشروعة. وهي بذلك انتهت إلى نتيجة مشابهة لقرارين صدرا مؤخرا عن محكمتين أخريين، أحدهما القرار الصادر عن قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شواح بتاريخ 3 كانون الثاني، والآخر القرار الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في النبطية أحمد مزهر بتاريخ 7 كانون الثاني. ورغم الاختلافات الجزئية الواردة فيها لجهة المضمون والتعليل والأسلوب، فإن هذه القرارات الصادرة عن ثلاث محاكم مختلفة (بيروت، النبطية، جديدة المتن) تتلاقى كلها في النتيجة التي وصلت إليها وقوامها قبول دعوى مستعجلة لأحد المودعين ضد القيود المصرفية المفروضة عليه، أو ضدّ ما أمكن تسميته الكابيتال كونترول capital control وتحديدا الكابيتال كونترول غير النظامي informal (أو غير الرسمي وفق توصيف محكمة النبطية). ومرد توصيف هذه الممارسة بغير الرسمية، هو أن المصارف لجأت إليها في علاقتها مع عملائها والمودعين لديها بصورة منفردة من دون الاستتناد إلى أي نص قانوني يسوّغ لها القيام بذلك. ومن شأن تقرير هذه الضوابط بإرادة منفردة من المصارف أن يجعلها بمثابة تعدّ واضح و”صارخ” (التعبير لمحكمة المتن) الأمر الذي يحتّم على القضاء المستعجل (الذي هو قضاء القضايا البديهية أو غير القابلة للنزاع) التدخّل لوضع حدّ له.

وفيما تبقى هذه القرارات حتى اللحظة قرارات ابتدائية، فإنّها تعكس بحدّ ذاتها تمدّدا ملحوظا في عدد من المحاكم، يؤمل منه أن يتعزز في موازاة تزايد الضغوط الشعبية ضدّ ممارسات المصارف وأن يشكل مفعول دومينو داخل المحاكم وخارجها مؤداه كبحها بالكامل.

قرار المتن شاهد آخر على تعسف المصارف

صدر القرار الجديد كما سبق بيانه بناء على طلب أحد المودعين بإلزام المصرف اللبناني السويسري بتحويل الأموال المودعة في حسابه إلى خارج لبنان وتحديدا دولة غرينادا. ولقبول الطلب، تناولت القاضية ثلاث مسائل أساسية حملت مزيدا من الأجوبة على تعسف المصارف.

المسألة الأولى، تناولت حق المودع في إلزام المصرف بعمليات تحويل لأموال مودعة في حسابه خارج لبنان. وفي هذا الصدد، خلصت المحكمة لوجود هذا الحق، رغم أن القانون اللبناني يخلو من أي قاعدة قانونية تفرض على المصارف إجراء عمليات من هذا النوع وذلك بخلاف القانون الفرنسي الذي هو ينص على ذلك صراحة. وقد توصلت المحكمة إلى هذه النتيجة مرتكزة بداية على الأعراف وما شهدته من تطور في القطاع المصرفي ولكن أيضا على الدستور اللبناني الذي يسمح للقاضي باستخلاص قواعد قانونية لحل المسائل التي لا ينظمها القانون صراحة. ف “عمليات التحويل هي في صلب العمليات التي تتم بناء لتعليمات الزبون وفقا للعادة والعرف المهني المتبعين من قبلها (أي المصارف) تماما كما تقوم بعمليات إيداع الشيكات وصرفها وسحب الأموال نقدا أو بواسطة البطاقة.. الخ”. وهذا ما يلتقي مع ما توصلت إليه محكمتا بيروت والنبطية من قبل. أما السند الدستوري فقد استمدته المحكمة من تعريف النظام الاقتصادي وفق ما ورد في مقدمة الدستور ومفاده أنه “نظام حر يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة” ويقوم تاليا على حرية التداول ومن ضمنها حرية التصرف برأس المال وتحويله دون قيود إلا تلك التي نص عليها القانون. وعليه، يكون للمودع حق إعطاء أوامر للمصرف بإجراء التحويل طالما أن حسابه دائن وأنه ليس هنالك أي بند في العقد المبرم منه يمنعه عن ذلك وطالما أن التحويل المطلوب يحصل إلى دولة من غير المحظر التحويل إليها. وقد انتهت القاضية من خلال ذلك إلى نتيجة مماثلة لما كانت انتهت إليه محكمة بيروت في حكمها الصادر في 3 من هذا الشهر.

المسألة الثانية، اتصلت بمعرفة ما إذا كان للأزمة التي تذرع بها المصرف أن تعفيه من الامتثال لأوامر المودع وعمليا من تنفيذ عملية التحويل. وهنا أيضا، وعلى غرار ما فعلته محكمتا النبطية وبيروت، استبعدت المحكمة هذه الحجة أولا لأن المصرف لم يقدم أي إثبات على تحول هذه الأزمة إلى قوة قاهرة (وهو شرط لتمكين المصرف من التحرر من تنفيذ التزاماته بحدود ما تفرضه هذه القوة القاهرة) وثانيا على ضوء مبدأي النظام الاقتصادي الحر وحماية الملكية الخاصة، واللذين لا يجوز الخروج عنهما إلا بقانون. وقد أكدت هنا أيضا المحكمة أن الممارسة التي دعت إليها جمعية المصارف تبقى ممارسة غير دستورية وغير قانونية تماما كما ورد في حكم بيروت وفي بيان النقيب خلف الصادر في 3 كانون الثاني. ومن هذه الزاوية، شكل القرار شاهدا آخر ليس فقط على تمرد المصارف على القانون بل أيضا على تمردها على النظام الليبرالي الذي طالما استندت إليه لتحقيق المكاسب.

المسألة الثالثة اتصلت بمعرفة ما إذا كان بإمكان المصرف التنصل من مسؤوليته من خلال العرض المقدم منه للمودع بتسليمه شيكا مصرفيا مسحوبا على مصرف لبنان بالدولار الأميركي. وهذه المسألة لا تقلّ أهمية عن المسألتين السابقتين ولا سيما أن المصارف بدت على اتفاق على الإدلاء بهذه الذريعة في مجمل الدعاوى التي أقيمت ضدّها. وهنا، تمايز القرار من خلال ردّ هذه الحجة على أساس أن للمودع (الذي لم يوافق أصلا على هذا العرض) وحده تحديد العملية التي يرغب بإجرائها وإعطاء التعليمات المحددة بشأنها والتي يجب على المصرف الامتثال لها. وهي حجة تلتقي في عمقها مع ما كان خلص إليه حكما النبطية (صراحة) وبيروت (ضمنا) لجهة أن تسليم هذا الشك لا يحقق بالنتيجة نفعا للمودع من حيث دفع الضرر عنه وتمكينه من سداد التزاماته خارج الأراضي اللبنانية. إلى ذلك، كانت محكمة بيروت اعتبرت أن الشيك المصرفي المسحوب على هذا النحو لم يعد بواقع الحال وسيلة إيفاء بعدما اتضح أنه ليس للمودع خيار سوى إيداعه وتاليا تجميده في مصرف آخر مما يدخله في دوامة لا تنتهي من القيود على حقه بالتصرف بماله، فيما اعتبرت محكمة النبطية أن هذه الوسيلة لا يعدو كونه سندا عاديا بالمديونية.

هذه هي الأسباب التي بررت موقف المحكمة باعتبار رفض المصرف إجراء عمليات التحويل تعديا واضحا وصارخا وساطعا على حقوق المودع لديه، لا بعتريه أي التباس أو غموض ولا يقبل أي منازعة جدية. وقد ذكرت المحكمة أن هذا التعدّي يحصل بفعل أو امتناع عن فعل يصدر عن شخص خارج نطاق حقوقه المشروعة ويلحق ضررا بالغير. وبالنتيجة ألزمت المصرف بإجراء هذه العملية وفق تفاصيل طلب الحوالة، تحت طائلة تسديد ثلاثة آلاف د.أ عن كل يوم تأخير.

مفعول الدومينو داخل المحاكم وخارجها

مما تقدم، يظهر بوضوح تمدد أكيد داخل دوائر القضاء المستعجل لإدانة ممارسات الكابيتال كونترول كما سبق بيانه. ويؤمل أن يثبت هذا الاتجاه داخل محاكم المتن والنبطية وبيروت وأن يتمدّد إلى سائر المحاكم، تمهيدا لإرساء فقه قضائي يمكّن القضاء من أداء دوره الأساسي في حماية المواطنين إزاء القوى النافذة (جمعية المصارف) التي تستبيح حقوقهم وتعرّضها لخطر داهم. إلا أن هذا التمدد يبقى حتى اللحظة محصورا بالمحاكم الابتدائية، فيما أن الموقف المعلن الوحيد لمحكمة استئنافية اتصل بموقف سلبي صدر عن محكمة استئناف النبطية بوقف تنفيذ حكم النبطية.

وبالطبع، لفهم القضاة لوظيفتهم القضائية أثر كبير في تحديد وجهة القرارات التي قد يتخذونها، حيث يبقى جيل القضاة الشباب أكثر ميلا لاستجابة مطالب الحراكات الشعبية وحماية الحقوق والحريات من جيل القضاة الأعلى درجة (جيل هيمنة العقود الثلاثة الماضية) والذين هم يبقون أكثر تحفظا وانكفاء في مواجهة السلطة. وتأثير فهم القاضي لوظيفته نستشفه بوضوح من حكم بيروت الذي ذهب إلى درجة تعرية ممارسات المصارف وجشعها طوال العقود المنصرمة وإلى التنديد بلامبالاة حاكم مصرف لبنان والسلطة التشريعية، كما نستشفه من حكم النبطية الذي ذهب حدّ الحديث عن دور االقاضي في نصرة المظلوم ضد الظالم إحقاقا للحق. فهل يتمدد مفعول الدومينو في المحاكم الابتدائية إلى الدرجة الاستئنافية أم أنه يؤدي إلى ما يشبه صراعا بين أجيال القضاة لجهة مدى التزامهم بالقضايا الاجتماعية؟

يبقى أنه يصعب فصل التفاعلات داخل المحاكم عن التفاعلات خارجها. فبقدر ما تؤثر القرارات القضائية في الحراكات الشعبية في مواجهة المصارف، بقدر ما يتأثر القضاة بقوة هذه الحراكات وما تعبّر عنه من قهر ومظالم، باتت طاغية أكثر من أي وقت مضى في الفضاء العام. من دون أن ننسى دور نقابة المحامين والمنظمات الحقوقية في دعم الاتجاه القضائي المناصر للحراكات الاجتماعية وتذكيته. وما يعزز الآمال في هذا الخصوص هو أن تنامي الرأي العام يحصل في موازاة تضاؤل قوة السلطة السياسية وقدرتها على الهيمنة على القضاء أو المجتمع. ولعل خبر تعبير عن نجاح الخطاب الحقوقي (ومنه القرارات القضائية وبيان نقيب المحامين ملحم خلف) والضغط الشعبي القضائي في نزاع المشروعية عن اجراءات المصارف التعسفية، هو الكتاب الذي أرسله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتاريخ 9 كانون الثاني إلى وزارة المالية والذي أقر فيه بأن هذه الإجراءات أدت إلى الإجحاف بحقوق المودعين، مطالبا بتفويضه قانونا باتخاذ الاجراءات الضرورية في هذا الصدد. هذا الكتاب يشكل بحد ذاته ومؤكدا اعترافا بصحة القرارات والمواقف المذكورة أعلاه واستباقا لمزيد منها من خلال وضع قانون يمهد عمليا للعبور من الكابيتال كونترول غير النظامي إلى الكابيتال الكونترول النظامي. ومن شأن هذا الكتاب في حال استجابة السلطة التشريعية له، أن يغير من طبيعة المعركة ونقلها من معركة لفرض القانون على قوى سلطة الأمر الواقع (جمعية المصارف) إلى معركة حول عدالة القانون الذي قد تتجه السلطة التشريعية لوضعه ومدى عدالته (ودستوريته..). وهذا ما سأعمل على توضيحه وشرحه في مقال ينشر غدا على حدة ويتناول حصرا معنى وأبعاد كتاب سلامة.

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني