في ظلّ ضبابية تمويل الأحزاب والتنصل من الرقابة: 150 حزبا تونسيا قد يقع حلّه خلال سنتين


2020-07-11    |   

في ظلّ ضبابية تمويل الأحزاب والتنصل من الرقابة: 150 حزبا تونسيا قد يقع حلّه خلال سنتين
المصدر: الصفحة الرسمية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد

تحت عنوان “مراقبة تمويل الأحزاب السياسية في تونس؛ الواقع وسبل تحسين النجاعة”، نظّمت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية وبالشراكة مع وزارة حقوق الإنسان والعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، ندوة يوم الثالث من شهر جويلية الجاري، بحضور عدد من المسؤولين المتدخلين في هذا الموضوع على غرار رئيسي المحكمة الإدارية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وممثلين عن السلطة التنفيذية وهيئة الخبراء المحاسبين.

ندوة سلطت الضوء على حجم الإشكاليات المتعلقة بالرقابة على تمويل الأحزاب في ظل العمل بالمرسوم عدد 87 لسنة 2011 المنظم لذلك، كما أثار المتدخلون العديد من الإستفهامات حول مدى إلتزام الأحزاب السياسية بتقديم تقاريرها المحاسبية للجهات الرقابية، مما قد يعرض عددا كبيرا منها إلى عقوبات قد تصل إلى حلّها خلال السنوات القليلة القادمة.

تعدّد الهيئات الرقابية وضبابية صلاحياتها

رغم إقرار المرسوم عدد 87 لسنة 2011 بضرورة تقديم الأحزاب السياسية لتقارير مفصلة بصفة سنوية حول مصادر التمويل والنفقات إلى ثلاث جهات وهي محكمة المحاسبات من جهة، ولجنة يترأسها الرئيس الأول للمحكمة الإدارية بمشاركة كل من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتونس ورئيس هيئة الخبراء المحاسبين من جهة ثانية، ورئاسة الحكومة أيضا، فإن معدل تقديم الأحزاب لتقاريرها إلى هذه الأطراف مجتمعة لا يزال محتشما. فمثلا لم يقدم أي حزب سياسي جميع تقاريره المحاسبية منذ تاريخ تأسيسه إلى حد الآن (أي سنة بسنة)، وفق مدير الإدارة العامة للجمعيات والأحزاب السياسية مراد المحجوبي.

في المقابل، فإن تعدد الجهات المعنية بقبول ملفات الأحزاب المحاسبية أدى إلى تضارب في الأرقام التي تقدمها هذه الأطراف. تضارب يعكس غياب رؤية متناسقة للمرسوم عدد 87 على صعيد التوزيع الواضح للصلاحيات. فمثلا خلال سنة 2018 لم تتلقّ اللجنة التي يترأسها الرئيس الأول للمحكمة الإدارية إلا 12 تقريرا بينما تلقت رئاسة الحكومة في نفس السنة 20 تقريرا.

تباين في الأرقام يدل أن تعدد المصادر المتلقية للتقارير المالية للأحزاب قد أنتج نوعا من الفوضى. فقد علّق مدير الإدارة العامة للجمعيات والأحزاب السياسية مراد المحجوبي على ذلك موضّحا أن بعض الأحزاب السياسية تراسل اللجنة بينما تراسل أحزاب أخرى رئاسة الحكومة وهناك أحزاب أخرى لا ترسل تقاريرها أصلا لأنها لا زالت غير مستوعبة للنص القانوني وهو ما أدى إلى وجود لبس في معرفة العدد النهائي للتقارير المالية.

تعدد الأطراف الموكول إليها النظر في تقارير الأحزاب لم يفضِ فقط إلى إفلات بعضها من تقديم التصاريح اللازمة بل أدى أيضا إلى غياب التنسيق بين هذه الأطراف حيث اعتبر رئيس المحكمة الإدارية عبد السلام المهدي قريصعة أنه لا يوجد أي تنسيق في العمل بين اللجنة المسؤولة على المراقبة وبين رئاسة الحكومة، التي تتلقى التقارير في أجل شهر إبتداء من تاريخ تسليم مراقبي الحسابات لقوائم الحزب المالية وفقها ما يضبطه القانون، في حين أن اللجنة لا تضع أي أجل قانوني يحدد متى يمكنها تلقي التقارير.

الأحزاب السياسية تضرب بمبدأ الشفافية عرض الحائط

بالرغم من تباين الآراء حول عدد الأحزاب السياسية الملتزمة بتقديم تقاريرها المالية للجهات المسؤولة على ذلك إلا أن عددها يظل قليلا جدا. إذ لم يصل إلى اللجنة التي يترأسها الرئيس الأول للمحكمة الإدارية خلال سنة 2018 سوى تقارير 12 حزبا فقط من مجموع حوالي 200 حزب. وفي نفس السياق، راسلت رئاسة الحكومة سنة 2017 150 حزبا لم تقدم أي تقرير محاسباتي منذ تأسيسها ولم تجب على هذه المراسلات سوى 3 أحزاب فقط.

أرقام تعكس عزوف الأحزاب عن الإلتزام بالشفافية تجاه مؤسسات الدولة. وبناء على ذلك صرح مدير الإدارة العامة للجمعيات والأحزاب السياسية مراد المحجوبي أنه تم الاتفاق مع المكلف العام بنزاعات الدولة على مباشرة إجراءات حلّ 9 أحزاب لدى المحكمة الابتدائية بتونس في الفترة القليلة القادمة لأنها لم تلتزم بنشر أي تقرير، وفي ظرف سنتين سيقع حلّ 150 حزبا.

لجنة المراقبة، جهاز دون آليات عمل

لئن أقر المرسوم عدد 87 لسنة 2011 في الفصل 26 منه على ضرورة رفع تقرير مراقبة الحسابات إلى لجنة يترأسها الرئيس الأول للمحكمة الإدارية وبمشاركة كل من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتونس ورئيس هيئة الخبراء المحاسبين، إلا أنه لم يضع أي آليّات لتفعيل عمل اللجنة أو إيضاح مهمتها بالشكل الكافي لتكون فاعلة إما خلال تلقي التقارير أو عند توجيه العقوبات فيما بعد، حيث أن المرسوم قد جعل مسألة تسليط العقوبات حكرا على رئاسة الحكومة، ولم يحدد وسائل عمل اللجنة.

في هذا السياق، اعتبر رئيس اللجنة عبد السلام المهدي قريصعة أن اللجنة لا تستطيع توجيه أي تعقيب على التقارير التي تصلها من الأحزاب، وقد راسلت في هذا الصدد وزير المالية لإصدار القرار المتعلق بضبط معايير المحاسبة، ولم يصدر هذا القرار إلا في شهر فيفري 2018، كما أنه يفرض على اللجنة أن تتعامل مع الملفات التي وصلتها بداية من غرة شهر جانفي 2018، وبالتالي لا معنى لجميع التقارير التي وصلت اللجنة منذ دخول المرسوم 87 حيز النفاذ منذ سنة 2011.

التمويل العمومي للأحزاب ضمانة أساسية للديمقراطية

في ظل ارتفاع مصاريف بعض الأحزاب السياسية بطريقة لافتة للأنظار وأمام عدم تقديم أغلب الأحزاب لتقاريرها المحاسبية لمعرفة مدى تطابق هذه المصاريف مع ميزانياتها، عبر العديد من الأطراف المشاركة في الندوة عن مخاوفهم من إمكانية تلقي بعض الأحزاب لتمويلات من قبل أطراف أجنبية حيث اعتبر رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب أن تونس أصبحت تعيش حربا بالوكالة وهو ما يترجمه المشهد البرلماني الحالي، في إشارة إلى إمكانية تلقي بعض هذه الأحزاب لتمويلات أجنبية وهو ما يحجره المرسوم عدد 87 لسنة 2011 في فصله الـ 19.

وكآلية لضمان عدم إلتجاء الأحزاب السياسية لتلقي تمويلات أجنبية أقرت الدولة مبدأ التمويل العمومي للأحزاب، حيث جاء في الفصل 21 من المرسوم عدد 87 إقرار ‘تمتع الأحزاب السياسية بالتمويل العمومي’. لكن مرة أخرى يقع النص القانوني في لبس من حيث عدم التفصيل وإيضاح الآليات مما يجعل تفعيل هذا الفصل أمرا صعبا في ظل غياب قيمة التمويلات وشروطها وآلياتها، وهو ما جعل مسار تمويل الأحزاب منذ دخول هذا المرسوم حيز النفاذ (أي سنة 2011) مقتصرا فقط على الفترات الانتخابية دون غيرها وذلك حسب الشروط التي يضبطها القانون الانتخابي.

إشكالية اتجه مشروع القانون الأساسي المتعلق بالأحزاب السياسية إلى محاولة تفكيكها وحلها، حيث أقر مشروع القانون ضرورة تمتع الأحزاب الممثلة بمجلس نواب الشعب بتمويل عمومي سنوي من ميزانية الدولة في شكل منح وذلك وفقا للنتائج المصرّح بها من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في آخر انتخابات تشريعية.

كما أقر مشروع القانون عديد التفاصيل التي تخص تقديم هذا التمويل من قبيل أنها تشتمل على جزء قار وجزء غير قار. يتمثل الجزء القار من المنحة في المقدار المخوّل لكل حزب ممثل في مجلس نواب الشعب والمحدّد بمبلغ خمسين ألف دينار. بينما يتمثل الجزء غير القار من المنحة في المقدار المخوّل للحزب بحسب عدد نوابه بمجلس نواب الشعب والمحدّد بمبلغ عشرة آلاف دينار عن كلّ نائب.

حتى الأحزاب التي لم تفز بأي مقعد في مجلس نواب الشعب، خصّص لها مشروع القانون نصيبا من التمويل العمومي. حيث تُضبط قيمة المنحة المخولة للحزب بحساب ألف دينار عن كلّ دائرة انتخابية مترشح عنها وبحساب دينار واحد عن كلّ صوت يتحصّل عليه. ويشترط للانتفاع بهذه المنحة أن لا يقل عدد الدوائر المترشح عنها 5 دوائر وألا يقل عدد الأصوات المتحصّل عليها إجمالا عن ألفين وخمسمائة صوت. ولا يمكن أن يتجاوز المقدار الجملي لهذه المنحة 50 ألف دينار.

واعتبر في هذا السياق مدير الإدارة العامة للجمعيات والأحزاب السياسية مراد محجوبيأن التمويل العمومي سيصبح على مدار السنة ولن يقتصر على المحطات الإنتخابية فقط حتى لا يكون هناك تباين بين الأحزاب ”الكبيرة” والأحزاب ”الصغيرة”.

لئن ساهم المرسوم عدد 87 لسنة 2011 في تنظيم العمل الحزبي من حيث المبادئ العامة والتأسيس والتسيير، وأدى إلى إقرار ظاهرة صحية وهي التعددية الحزبية ليتجاوز عدد الأحزاب السياسية في تونس (224 حزبا) إلا اأن لجهد المبذول ظل منقوصا على مستوى الأحكام المالية والعقوبات. وضع معقّد قد يساهم مشروع القانون الأساسي المتعلق بالأحزاب الذي تقدمت به وزارة حقوق الإنسان والعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني في حلحلته وإيجاد حلول للإشكاليات المالية وعدم الالتزام بالشفافية. لا سيما أن إقرار هذا المشروع أصبح حاجة ملحة في ظل تلكؤ الأحزاب في تقديم تقاريرها والشبهات التي تحوم حول عدد منها والمتعلقة بتلقي أموال من جهات أجنبية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني