قضايا جدلية في الدستور السوري (1): نحو دستور لجميع السوريين


2014-08-25    |   

قضايا جدلية في الدستور السوري (1): نحو دستور لجميع السوريين

يتعرض السوريون بصرف النظر عن انتمائاتهم الدينية والعرقية وآرائهم السياسية لأبشع أنواع الانتهاكات الحقوقية التي بدأت نيرانها تمتد إلى دول مختلفة في منطقة المشرق العربي والتي لايمكن لأحد تحديد مآلاتها. لقد كان ولايزال تجاهل الحلّ السياسي وغيابه أحد أهم أسباب تدهور الأمور واشتعال العنف واتساع رقعته. فما كانت الأمور تصل لهذه الحالة الكارثية، التي سببت معاناة بشرية هائلة وقوضت سيادة سوريا، لو استجاب النظام السوري، كما فعل نظراؤه من رؤساء الأنظمة الديكتاتورية في بعض الدول العربية، للمطالب الشعبية بالإصلاح والتغيير. ورغم ذلك، لن تدوم الديكتاتورية للأبد كما يشهد التاريخ على ذلك ولابدّ للاتفاق السياسي من أن يأتي ولو متأخراً ليضع حدّاً لهيمنة الاستبداد ولاحتدام الصراع المسلح. فسوريا، كالكثير من بلدان العالم التي شهدت نزاعات مسلحة وفترات دامية، سينتهي أمرها حتماً باتفاق سياسي يبدو بأنه سيكون مرهوناً بتوازنات ومصالح واستقطابات دولية وأقليمية أكثر منها داخلية. وفي هذا الإطار، على المجتمع المدني السوري أن يواكب قدر الإمكان هكذا حلّ توافقي بشكل يسمح بتيسير عملية إعادة بناء سوريا ومؤسساتها على أساس مبدأ المواطنة التامة وتجنب تقسيم هذا البلد أو وضع أساس حكم طائفي له كما حدث في لبنان مثلاً من خلال اتفاق الطائف.

تحتاج سوريا اليوم لسلطة حاكمة تمثل جميع السوريين يتشكل فيها دستور جديد يتجاوز سلبيات الدساتير السابقة التي ساهمت بشكل أساسي في تفكيك البنية الاجتماعية والسياسية في هذا البلد وتعزيز الاستبداد فيه. فيمكن لهذا الدستور الجديد أن يشكل العقد الاجتماعي والضمانة الأساسية لتحقيق الانتقال من حالة العنف إلى حالة الأمان ولبناء دولة المؤسسات التي بدونها لا يمكن تحقيق استقرار البلد ونموه وازدهاره وضمان عدم تكرار مآسي وصراعات الماضي. وبالتأكيد لن يكون هكذا دستور كافيا لحلّ جميع مشاكل سوريا ولكن على الأقل يشكل التوافق على مضمونه ضرورة أساسية لدعم المصالحة الوطنية والتعايش الديني والأثني ورسم الوجه الجديد لسوريا عقب هذه المرحلة الدامية. فيرسي الدستور، الذي يعتبر القانون الأسمى والأعلى في البلاد، القواعد القانونيّة التي تُشكّل نظاماً لكيفيّة الحكم و يُحدّد استخدامَ السُّلطة السياسية فيه وكيفية التعامل بين مختلف مكونات الشعب وعلاقاتهم المتبادلة. كما يُعرّف الدستوربحقوق المواطنين وحرّيّاتهم، إلى جانب المبادئ العُليا للدولة.وينبغي أن تتوافق جميع القوانين والمراسيم التي تصدُربعد وضع الدستور مع القواعد الدستورية التي يتضمّنُها وأيضاً أن يتم استبعاد ما هو متعارض معه من القوانين السابقة لعدم دستوريتها.لذلك يحظى الدستور بأهميّة بالغة فيترسيخ حُكم القانون وحماية حقوق الإنسان بما في ذلك حقوق الأقليّات المختلفة.  

وتبرز أهمية النقاش الدستوري خلال فترة التحولات السياسية من أجل بناء الوعي الشعبي، من ناحية، والدفع باتجاه الحوار السياسي الذي قد يمهد للاستقرار وإقامة الشرعية لنظام الحكم الجديد، من ناحية ثانية. وتزدادهذه الأهمية في الحالة السورية في ظل تخوف شريحة واسعة من سكان هذا البلد، ولاسيما أقلياته، من النظام السياسي الذي يمكن أن تفرزه التغييرات الحالية في سوريا، وخاصة في ظلّ اشتداد قوة التيار الإسلامي المعارض لنظام الأسد. ويعود تغلغل هذا التخوف شعبياً لعقود نتيجة إثارته وتعزيزه من طرف النظام الحاكم بين مختلف مكونات الشعب السوري من أجل تحقيق استدامة السلطة (على مبدأ فرق تسد). كما عزز نظام الحكم في سوريا من أيدلوجية العروبة التي تغلغلت حتى في صفوف المعارضين المتمسكين بها وهو ما يثير مخاوف المنتمين إلى الأقليات غير العربية ويساهم في دفع بعضهم حتى للمطالبة بالانفصال. يبدو إذا وفي إطار التغيير الدستوري المقبل بأن مسألتي العروبة والدين ستكونان من أبرز القضايا الجدلية. فكلتاهما ذو تأثير واضح على مستقبل سوريا وعلى مختلف مكونات الشعب السوري وخاصة في ظل تعدد الأقليات غير العربية من ناحية، والأقليات غير المسلمة، من ناحية أخرى.
 
أولاً: الدين في دساتير سوريا الحديثة
إن العلاقة بين الدين والدولة ذو حساسية بالغة زادها العنف الطائفي والصراع الديني تعقيداً في الحالة السورية. وبالتالي، سيشهد اللاعبون السياسيون جدلاً واضحا في إطار صياغة التشريعات الدستورية ذات الصلة بالدين. ويمكن استنباط مدى تأثير الدين على الدستور،ليس فقط من خلال التشريعات المتضمنة على ذكر صريح للإسلام وللشريعة، إنما أيضا من خلال تأثير القانون الوضعي ولاسيما مبدأ المساواة على أساس الدين والجنس وحرية المعتقد. 

المساواة في الدساتير السورية الحديثة
تعدّ المساواة من أهم سمات المجتمعات الديمقراطية المتقدمة وهي ضرورة حتمية لانهاء مظاهر التمييز بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية والأثنية وبالتالي تعزيز الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي والاجتماعي للدول وتجنب الاحتقان المؤدي أحياناّ للصراعات والحروب الأهلية. فالمساواة هي جانب رئيسيّ من مبدأ المُواطنة الذي يُعتبَر محوريّاً من أجل ضمان احترام حقوق الانسان وتأمين اندماج الأقليّات بمجتمعاتهم الأصلية. ويقضي الحق بالمساواة بضرورة احترام مجموعة من الحقوق الأخرى كعدم التمييز والمشاركة السياسية وتكافؤ الفرص؛ وهي تشتمل بالضرورة على المساواة من حيث الحقوق والواجبات و أمام القانون والقضاء والمحاكم، وهو ما يعتبر أمراً حاسماً لتجنُّب التمييز في قضايا مختلفة لاسيما الأحوال الشخصية التي لا تزال مستقاة من الدين إلى يومنا هذا في العالم العربي.

يضمن الدستور السوري الحالي الذي اعتمده نظام الأسد سنة 2012، كحال الدستور السابق و الذي صدر عام 1973، مبدأالمساواةفيديباجتهوأيضا في المواد 18 و 19 و 26 و 33. وتؤكّد الديباجة على حماية الوحدة الوطنيّة و التنوّع الثقافيّ و الحرّيّات العامّة و حقوق الإنسان و العدالة الاجتماعية و المساواة و تكافؤ الفرص والمُواطنة وسيادة القانون. وبموجب الفقرة الثانية من المادّة 26  فإنّ  المواطنين متساوون فيتولّي وظائف الخدمة العامّةو تدعو المادة 33 في الفقرة الثالثة إلى المساواة بي نجميع المواطنين من حيث الحقوق والواجبات، ″لاتمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أوالأصلأ واللغة أو الدين أو العقيدة″. وتنصّ الفقرة الرابعة من نفس المادّة على أن تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين.

يعدّ تضمين مبدأ المساواة كحق دستوري ذا أهمية بالغة لكافة المواطنين في سوريا ولاسيما في ظل تأصّل التمييز في هذا البلد بين فئات الشعب المختلفة كالمسلمين وغيرهم والمرأة والرجل والبعثيين وغيرهم. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى تعارض مبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور السوري مع مواد دستورية أخرى، مثل ما نصّ عليه الدستوران السوريان الأخيران من أنّ دين رئيس الدولة هو الإسلام واعتبارهما للفقه الإسلامي كمصدرٌ رئيسيٌّ للتشريع. فيحرم غير المسلمين من الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية وتشتمل أيضاً بعض أحكام الشريعة الإسلامية، أو بعض التفسيرات الدينية لهذه الشريعة وتطبيقاتها الحالية في سوريا كما في بقية بلدان العالم العربي، على انتهاكات لمبدأ المساواة بين المُسلمين وغيرهم، من ناحية،وبينا لرجال والنساء، من ناحية أخرى.

الحرية الدينية وتأثير الدين الإسلامي
تشتمل الحرية الدينية على حرية الإيمان أو عدم الإيمان، حرية الانتماء أو عدم الانتماء إلى دين أو طائفة معينة، وبالتأكيد عدم التعرض للتمييز على أساس الإنتماء الديني وكذلك الحق في تغيير الدين.كما تتبع هذه الحرية حقوق مختلفة كممارسة الشعائر الدينية وعقد الاجتماعات الدينية وبناء وترميم أماكن العبادة، الخ.

وقد تضمنت العديد من المواد الدستورية، سواء أكان في دستور 1973 أو الدستور الحالي  2012، على نصوص لاحترام حقوق التمتع بالحريات بما فيها الدينية. فينصّ الدستورالسوريّ الحالي، بنصّ مماثل تقريباً لدستورعام 1973،على أن تحترم الدولة جميع الأديان،وتكفل حرّيّة القيام بجميع شعائرها على أن لا يُخلّ ذلك بالنظام العام.وتضيف الفقرة الأولى من المادّة 42 من الدستورالحاليّ على أنّ حرّيّة الاعتقاد مصونة وفقاً للقانون. ويبدو هذا النصّ ضعيفا مقارنة مع ما ورد عن الحرية الدينية في دساتير دول عربية أخرى كلبنان الذي ينصّ دستوره في المادة التاسعة على أن حرية الاعتقاد مطلقة″. وتعتبر الشريعة الإسلامية أحد أركان النظام العام في سوريا وبالتالي فإنّ القيام بشعائر الأديان يجب أن يكون متوافقاً مع هذه الشريعة. ومن هنا لايجوزالتبشير بغير الدين الإسلامي أو الترخيص لغير الأديان التوحيدية. وخلافاً للدستورين اللبناني والأردني،لايضمن الدستورالسوري حرّيّة التعليم الديني. كما تجدر الإشارة بأن هذين الدستورين السوريين لا ينصّان، وبخلاف أغلب دساتير العالم العربي، على أنّالإسلامدينللدولة. ومع ذلك، تنصّ المادة الثالثة من الدستور الجديد، مثل سابقه لعام 1973، على أنّ دين رئيس الدولة هو الإسلام. وكلا هذين الدستورين يشيران في نفس هذه المادة على أنّ الفقه الإسلامي ″مصدر رئيسي للتشريع″.

وينصّ الدستور الجديد في مادته الثالثة على أن ″الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة و مرعية″، وذلك وبخلاف دستور عام 1973 الذي خلا من هكذا نصّ. وجاء هذا النصّ ليعزز ما هو معمول به في سوريا من ناحية التعددية الدينية والتشريعية في مجال الأحوال الشخصية، وليعطل من إمكانية اعتماد مؤسسة الزواج المدني. ففي سوريا، كما في العديد من البلدان المجاورة، يوجد قوانين تنظيم أسرة ومحاكم خاصّة بكل من المُسلمين والمسيحيين والدروز وخاصة في مجال الزواج والطلاق وآثارهما. ومن المؤكد أن هذا النظام التعددي في مجال الأحوال الشخصية يضمن استقلالية تشريعية وقانونية للفئات غير المسلمة وتُجنبهم تطبيق الشريعة الإسلامية في شؤون أسرهم، و لكنه يسبب انتهاكات لمبدأ المساواة بين المُسلمين وغيرالمُسلمين وبين النساء والرجال إضافة إلى حقوق حرّيّة الاعتقاد والفكر و الضميرإنّ مساوئ هذا النظام عديدة كتطبيق التشريعات الدينية على غير المؤمنين بها  كالعلمانيين والمنتمين إلى أقليات دينية غير معترف بها رسمياًويُضاف إلى ذلك ما تسببه هذه التشريعات الدينية من تكريس للطائفية ولهيمنة المؤسسات الدينية على المواطنين، وكذلك تفكك المجتمع نتيجة لتطبيق قوانين مختلفة على أبناء الدولة الواحدة مما يتسبب بزعزعزة الاستقرار القانوني. وتكرّس هذه التعددية حظر أو تقييد إبرام عقود الزواج المختلط ومنع الميراث في حال اختلاف الدين وإعطاء حضانة الأطفال للطرف المسلم في الدعوى، بالإضافة إلى التمييز ضد المرأة، إلخ.
 
ويبقى التساؤل في إطار الإصلاح الدستوري السوري المقبل عن التوازنات بين مفاهيم حقوق الانسان الحديثة من ناحية، ودور الدين والشريعة الإسلامية من ناحية ثانية. وتجدر الإشارة إلى التجربة الفريدة في تونس التي اتفق فيها الأطراف على اعتبار الإسلام كدين للدولة في مقابل انحسار دور الشريعة الإسلامية وتعزيز الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الانسان بما في ذلك المساواة بين الرجل والمرأة وحريةالمعتقد. بينما لا تبدو الدساتير المصرية المعتمدة في إطار الحراك الشعبي خلال السنوات الأخيرة ممهدة لمرحلة جديدة من الاستقرار وبناء دعائم دولة المواطنة وخاصة في ظل عدم التوافق السياسي والرضا الشعبي الكافي والتأثير الديني الواضح فيها. وفي إطار ذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار في الحالة السورية ما لاختلاف مكوناتها الشعبية عن كل من مصر وتونس، وبالتالي يشكل إعطاء الإسلامدورا دستورياً مُهيمناً أمراً ذات حساسية بالغة للكثير من المنتمين للأقليات الدينية والعرقية وغيرهم من العلمانيين في هذا البلد.
 
 
يتبع جزء ثان: العروبة والدستور…. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، سوريا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني