محاكمة مالية للسلطة السياسية


2014-10-02    |   

محاكمة مالية للسلطة السياسية

محاكمة شاملة لأداء السلطة السياسية بكل ما يتعلق بالأموال العامة منذ 1993 حتى اليوم. تلك هي خلاصة “المراجعة-الدراسة” التي تقدم بها كل من الرئيس حسين الحسيني، ووزير المالية الأسبق الياس سابا، والنائب غسان مخيبر[1]، إلى مجلس شورى الدولة، والتي تضمنت طلب إبطال قرار مجلس الوزراء تاريخ 24 تموز 2014 الذي هدف إلى تأمين الاعتمادات المطلوبة للرواتب والأجور وملحقاتها من احتياطي الموازنة العامة. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل ذهبت المراجعة بخطوة ثورية بكل المقاييس إلى مطالبة مجلس شورى الدولة بتشكيل هيئة قضائية للإشراف على إدارة المال العام وفرض الضرائب والاستدانة، «بما يؤمن الوظائف الحيوية للدولة حصراً».

وبعد تأكيد المستدعين على توفر الصفة والمصلحة لقبول المراجعة شكلا والتشديد على أن القضاء الإداري بات الملاذ الأخير لتصويب مسار المالية العامة للدولة، تستعرض المراجعة أبرز المخالفات الدستورية والقانونية التي شابت أداء الحكومات المتعاقبة وتفندها بطريقة مفصلة، ما يشكل إدانة واضحة وصريحة لكل الطبقة السياسية قي لبنان، التي أوصلت البلاد إلى تلك الحالة من التخبط والفوضى.

وسنعرض أدناه لأهم تلك المخالفات وفقا لما ورد في “مذكرة الاتهام” تلك مع بعض التوسع في الشرح عند الضرورة:

أولا: خرق المبادئ الديموقراطية.
من المسلمات اليوم في النظم السياسية العصرية المبدا الدستوري الجوهري الذي يعبر عنه بالتعبير الشهير: “No taxation without representation“. اي ان فرض الضرائب لا يمكن أن يتم من قبل السلطة دون موافقة الجهة التي تفرض عليها هذه الضريبة أو من يمثلها. وقد نشأ هذا المبدا بشكل واضح عقب الثورة الانكليزية وتم التعبير عنه بوضوع في وثيقة الحقوق لسنة 1689 التي تنص في بند من بنودها على التالي:

That levying money for or to the use of the Crown by pretence of prerogative, without grant of Parliament, for longer time, or in other manner than the same is or shall be granted, is illegal
وقد كرست المادة 81 من الدستور اللبناني هذا الأمر عندما نصت على التالي: “تفرض الضرائب العمومية ولا يجوز إحداث ضريبة ما وجبايتها في الجمهورية اللبنانية إلا بموجب قانون شامل تطبق أحكامه على جميع الأراضي اللبنانية دون استثناء”·

فجباية الضرائب لا تصبح قانونية إلا إذا صدر عن مجلس النواب ما يسمح لأجهزة الدولة بتحصيل تلك الأموال من المكلفين. وهذه الإجازة التي تمنحها السلطة التشريعية بوصفها ممثلة للسيادة الشعبية يجب تجديدها سنويا عملا بمبدأ سنوية الموازنة المكرس في المادة 83 من الدستور.
ومن المعلوم أن آخر موازنة تم تصديقها في مجلس النواب كانت لسنة 2005 وهي أصلا تم اقرارها بشكل متأخر وصدرت في 3 شباط 2006 أي بعد أكثر من سنة من موعدها الدستوري. ولا ضير من التذكير هنا أن إلغاء مجلس الشيوخ سنة 1927 تم نتيجة بطء العمل التشريعي الذي تجلى مع نشر قانون موازنة سنة 1926 في ملحق للجريدة الرسمية الصادرة في 29 نيسان 1927. وعليه،”فإن كل الجباية التي حصلت منذ 2005 (…) هي جباية غير دستورية وغير قانونية”.

وهكذا يتبين لنا أن عدم اقرار الموازنة في مجلس النواب هو في حقيقة الأمر ضرب لسيادة الشعب مصدر السلطات وانتهاك لحقه الجوهري بالموافقة مباشرة أو عبر ممثليه على كل ضريبة يؤديها إلى خزينة الدولة.

ثانيا: عدم احترام الالية الدستورية.
تختلف الموازنة عن سائر القوانين العادية من ناحية الشكل والمضمون. فبالشكل، إقرار الموازنة في مجلس النواب يخضع لشروط خاصة وإجراءات دستورية محددة ابرزها: ضرورة أن تقوم الحكومة بتقديم مشروع موازنة السنة المقبلة في بدء عقد تشرين الأول (المادة 83)، حق رئيس الجمهورية بإصدار الموازنة بمرسوم في حال لم تقر الموازنة قبل نهاية شهر كانون الثاني (المادة 86)، ضرورة منح الأولولية لمناقشة واقرار مشروع الموازنة في عقد تشرين الأول قبل أي عمل آخر (المادة 32). أما من حيث المضمون، تختلف الموازنة عن القانون العادي كون هذا الأخير ينص من حيث المبدأ على أحكام عامة وغير شخصية بينما الموازنة هي عبارة عن نص تقني مفصل بالجداول والأرقام ولا يمكن بالتالي وصفه بأنه عام أو غير شخصي.

تعرض المراجعة للمخالفات التي ارتكبتها السلطة السياسية التي لم تحترم القواعد الدستورية إما بعدم ارسال مشروع الموازنة ضمن المهلة القانونية أو حتى بعدم مناقشتها واقرارها في مجلس النواب أو بكل بساطة بعدم احالتها على الإطلاق. فمشاريع موازنات السنوات 2006 و2007 و2008 و2009 لم تناقش في مجلس النواب وإن كانت قد أرسلت إليه. أما حكومة الرئيس نجيب ميقاتي فهي لم ترسل مشاريع موازنة إلى المجلس النيابي عن السنوات 2011 و2013 و2014.

تثبت هذه الوقائع بشكل دامغ استهتار كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية بواجباتهما الدستورية وعدم احترامهما لبديهيات عمل المؤسسات بشكل سليم ومنتظم. والغريب أن تقاعس مجلس الوزراء غير مبرر على الإطلاق كون الدستور يمنح السلطة التنفيذية صلاحيات بالغة الأهمية في هذا المجال وذلك من خلال منحه رئيس الجمهورية صلاحية تجاوز السلطة التشريعية واصدار الموازنة بمرسوم في حال لم يقم مجلس النواب باقرارها قبل نهاية شهر كانون الثاني شريطة فقط احالة مشروع الموازنة على مجلس النواب قبل خمسة عشر يوما من بدء عقد تشرين الأول.

فاستهتار الحكومة بالأصول القانونية وعدم احترامها للمهل جعلها تفقد تلك الصلاحية الأساسية، علما أن هذه الالية المنصوص عنها في المادة 86 قد تم استعمالها في 2 شباط 1976 وذلك عندما تم اصدار موازنة 1975 بموجب المرسوم رقم 10880 خلال عهد الرئيس سليمان فرنجية.

ثالثا: تفسيرات مغلوطة
كيف تبرر الحكومات إذا الجباية والانفاق دون مسوغ دستوري؟ بالحقيقة دأبت السلطة السياسية منذ فترة طويلة  باستغلال المادة 86 من الدستور التي تنص على التالي: “في مدة العقد الاستثنائي (الذي يستمر لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة في حال تأخر اقرارها في عقد تشرين الأول العادي)، تجبى الضرائب والتكاليف والرسوم والمكوس والعائدات الأخرى كما في السابق وتؤخذ ميزانية السنة السابقة أساساً.

ويضاف إليها ما فتح بها من الاعتمادات الإضافية الدائمة ويحذف منها ما أسقط من الاعتمادات الدائمة وتأخذ الحكومة نفقات شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على القاعدة الاثني عشرية”.

ومن الواضح أن القاعدة الأثني عشرية لا يمكن تطبيقها إلا في شهر كانون الثاني، كون النص الدستوري يسلم حكما أن افتتاح العقد الاستثنائي سيتم من قبل رئيس الجمهورية وبالتالي أن عدم اقرار الموازنة هو شبه مستحيل لا سيما مع صلاحة السلطة التنفيذية باصدار الموازنة بمرسوم في حال ارسلتها إلى المجلس ضمن المهل الدستورية. وبما ان الممارسة لم تحترم القواعد التي يفرضها الدستور، تواطأت الحكومة مع مجلس النواب لاصدار مع كل موازنة يتم التأخر بإقرارها قانون يمدد تطبيق القاعدة الاثني عشرية لفترة تتجاوز شهر كانون الثاني. وهذا ما حصل مع موازنة 2005 إذ صدر القانون رقم 717 في 3 شباط 2006 الذي نص بمادته الوحيدة: ” أجيز للحكومة اعتبارا من أول شباط 2006 ولغاية صدور قانون موازنة 2006 جباية الواردات كما في السابق، وصرف النفقات على اعتبار القاعدة الاثني عشرية قياسا على أرقام الاعتمادات المرصدة في موازنة 2005 …”. وبما ان موازنة 2006 لم تصدر بعد، قامت الحكومات المتعاقبة بالجباية والانفاق منذ 2006 وحتى اليوم عملا بهذا القانون البدعة دون حسيب أو رقيب.

وهنا لا بد من ملاحظة لم ينتبه اليها أصحاب المراجعة. صحيح أن القانون الذي يسمح بتمديد العمل بالقاعدة الاثني عشرية يخالف الدستور لكن الدفع بعدم دستورية القرارات الادارية المتخذة وفقا لهذا القانون أمام مجلس شورى الدولة باطل ولن يجدي نفعا. فالفقرة الثانية من المادة 105 من نظام مجلس شورى الدولة تنص بشكل واضح على التالي:”لا يمكن تقديم طلب الابطال بسبب تجاوز حد السلطة الا ضد قرارات ادارية محضة لها قوة التنفيذ ومن شأنها الحاق الضرر، ولا يجوز في اي حال قبول المراجعة بما يتعلق بأعمال لها صفة تشريعية او عدلية”. لذلك لا يمكن ابطال الأعمال الادارية المخالفة للدستور طالما انها اتخذت تطبيقا لقانون حتى لو كان هذا الأخير نفسه مخالفا أيضا للدستور، ما يعرف في القانون الاداري بنظرية “loi-ecran” التي تبناها مجلس شورى الدولة في لبنان في العديد من اجتهاداته.

وفي سياق المخالفات نفسه تتناول المراجعة مسألة استدانة الدولة لسد عجز الخزينة. فمن المعلوم بشكل لا يقبل اللبس أن كل قرض تعقده الدولة لا يمكن أن يتم إلا بقانون (المادة 88 من الدستور). وفي ظروف الحرب والعجز الكبير الذي طال خزينة الدولة نشأت بدعة جديدة بحيث يعمد مجلس النواب إلى منح الحكومة صلاحية تجيز الاقتراض وإصدار سندات الخزينة بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء ما يشكل مخالفة دستورية جسيمة تتعلق بمبدأ عدم جواز تفويض مجلس النواب لصلاحياته التشريعية إلى السلطة التنفيذية. وبعد سنة 2001 ” توسعت المخالفة بشكل خطير، إذ استعيض عن الصياغة القائلة “بإجازة الاقتراض بحدود العجز الفعلي المحقق في تنفيذ الموازنة” بعبارة “إجازة الاقتراض بحدود العجز الفعلي المحقق في تنفيذ الموازنة والخزينة”، وكأنما للخزينة عجزاً، أو كأن الخزينة صك تشريعي ينفذ أو لا ينفذ، أو كأن لهذه الإجازة أي معنى. فتحولت الإجازة إلى إباحة واستباحة”.

لكن البدعة التي تبلغ درجة الهرطقة الدستورية تكمن في القرار رقم 19 تاريخ 15/9/2006 والذي تم تجديده لاحقا أكثر من مرة بحيث وافق مجلس الوزراء على ” الاستمرار بعقد وصرف ودفع الرواتب وملحقاتها وسائر النفقات الدائمة التي تقضي المصلحة العامة باستمرارها على أساس الاعتمادات الملحوظة في مشروع موازنة العام 2006 بالرغم من تجاوزها تلك المرصودة في قانون موازنة العام 2005 ، وذلك بإنتظار إقرار مشروع الموازنة للعام 2006 مع الاشارة إلى أن مشروع موازنة العام 2006 سيلحظ نصاً يجيز بصورة استثنائية عقد وتصفية وصرف ودفع النفقات الدائمة التي تقضي المصلحة العامة بإستمرارها والحاصلة قبل تصديق موازنة العام 2006 على غرار ما تم في قانون موازنة العام 2005″. فالحكومة تكون بهذا القرار قد سمحت لنفسها بالانفاق من دون موافقة السلطة التشريعية المسبقة بل هي أصبحت تحل محل هذه الأخيرة فتتصرف بالمال العام بطريقة استنسابية لا يجيزها الدستور.

خلاصة:
تأتي المراجعة على ذكر مجموعة أخرى من المخالفات نشير اليها سريعا:
· مخالفة مبدأ الشمولية الذي يفرض ادراج كل النفقات مهما كانت في الموازنة بحجة أن “الإنفاق الممول من قروض خارجية ومن بعض الهبات يستثنى من الموازنة”.

· مخالفة المادة 87 من الدستور التي تفرض ضرورة تصديق مجلس النواب على قطع الحساب قبل نشر موازنة السنة المقبلة. فالحكومة لم ترسل قطع حسابات السنوات السابقة وبالتالي لا يمكن اقرار أي موازنة دون التصديق أولا على قوانين قطوع حسابات المالية العامة عن كل السنوات حتى سنة 2013 ضمنا.

· اعتماد الحكومات منذ 2011 على صيغة سلفات الخزية لتبرير الانفاق بحيث تعطي الحكومة سلفات لذاتها وتمدد مهل سحبها إلى ما بعد الفترة القانونية هذا فضلا عن عدم تسديدها وفق القانون.

نتيجة لهذا الواقع، ونظرا لعدم وضوح دور ديوان المحاسبة لجهة ضرورة وجود موازنة كي يتمكن هذا الأخير من اجراء رقابته المسبقة على تنفيذ الموازنة، ولما كانت الدولة مقبلة حكما على التوقف عن دفع الرواتب بعد استحقاق نهاية شهر آب 2014 بسبب غياب أي مسوغ دستوري أو قانوني يجيز الانفاق، تخلص الدراسة إلى ضرورة تشكيل مجلس شورى الدولة لهيئة اشراف قضائي تتولى الاشراف والرقابة المسبقة على انفاق الأموال العامة.

وعلى هذا المطلب الأشبه بحلم وردي تنهي المراجعة مرافعتها وتضع في قفص الاتهام كل السلطة السياسية التي لا يجب أن يكتفى بملاحقتها أمام القضاء الاداري بل أيضا اتهامها بخرق الدستور وارتكاب جرائم جزائية تحاكم عليها أمام “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء” المنصوص عليه في المادة 80 من الدستور.



[1] وقد تقدم الوزير السابق شربل نحاس والنائب السابق نجاح واكيم بدعوى مطابقة امام مجلس شورى الدولة بالتاريخ نفسه.
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني