دخلت إيليان جريج طنوس، والدة الطفلة إيلا، إلى مكتب القاضي المنفرد الجزائي في بيروت باسم تقي الدين، تضم إيلا بين يديها وتمسك بيد ابنتها الأخرى بيرلا، وتحمل كيساً يرمز إلى محل ألعاب للأطفال. الكيس لا يخبئ لعبة لإيلا، بل يحوي أطرافها الاصطناعية التي تستخدمها الطفلة ذات الأربع سنوات لتتمكن من المشي. قبل ثلاث سنوات ونصف بترت أطراف إيلا ورأى ذووها أن ذلك حصل نتيجة سلسلة من الأخطاء الطبية. أمس بتاريخ 19 حزيران 2018، كانت الطفلة على موعد مع القاضي الذي ينظر في قضيتها، ومع الأطباء الثلاثة المتهمين ووكلائهم، ووكلاء المستشفيات الثلاث التي تنقلت بينها، وهم المعونات في جبيل، أوتيل ديو والجامعة الأميركية في بيروت.

 جلست إيلا بين هؤلاء تستمع لنقاشات حادة دارت بين أطراف الدعوى في غرفة ضيقة فيها أكثر من 15 شخصاً. خُصصت الجلسة للاستماع إلى شهادة ثلاثة أطباء شاركوا في اللجنة الطبية التي كلفها قاضي التحقيق في بيروت جورج رزق منذ عامين لإصدار تقرير طبي عن حالة إيلا. حضر إثنان منهم، وهما رئيس اللجنة نقيب الأطباء السابق الطبيب شرف أبو شرف، والطبيب شوقي حمود. وغابت عن الجلسة الطبيبة باتريسيا كالداني، فطلب وكيل عائلة إيلا المحامي نادر الشافي أن يتم صرف النظر عنها. إلاّ أن وكيلة الجامعة الأميركية المحامية كارولين رزق أصرت على استدعائها. وحضرت الطبيبة نهى حكيمي من دون طلب القاضي، وهي أيضاً من أعضاء اللجنة الطبية وطلبت من القاضي أن تقدم شهادتها.

تم الاستماع إلى الأطباء الثلاثة كل على حدة، وتمسكوا جميعهم بالتقرير الذي أنجزته اللجنة الطبية، وكانت الإجابة على معظم الأسئلة هي أن “التقرير يجيب على كل التساؤلات”.

لم تكن جلسة هادئة. فقد ذهبت الأمور في اتجاه تصعيد المواقف، وصولا إلى اتهام رئيس اللجنة نقيب الأطباء السابق شرف أبو شرف بالتزوير والكذب و”إعطاء شهادة كاذبة” من قبل محامي مستشفى المعونات روي لبكي. وقد حصل الاتهام بعدما تمسك أبو شرف بالتقرير الذي أنجزه مع اللجنة وكرر الإجابة نفسها أمام القاضي. “التقرير شامل ويتضمن جميع الإجابات على أسئلتكم”. أمام هذه الأجوبة اعتبر لبكي بأن أبو شرف امتنع عن الإجابة، لذا طلب من القاضي حفظ حقه بالإدعاء عليه. عندئذ، باغته القاضي تقي الدين بالرد: “لا يمكنك إجبار الطبيب بأن يجيب بغير ذلك، فله الحق بأن يحيل الأجوبة إلى التقرير الذي أعده”. ثم أفادت وكيلة مستشفى أوتيل ديو المحامية مروى الخضر بأن النقيب أبو شرف أتى إلى الجلسة حاملاً معه أفكاراً مسبقة. من جهتها، سجلت وكيلة الجامعة الأميركية موقفاً من إجابات أبو شرف وأدلت بأنه “إن تمسك هو بالتقرير فنحن سوف نبرز رأينا”.

في اتجاه آخر، فإن مستشفى الجامعة الأميركية كلفت الطبيبة بترا خوري النظر في التقرير الذي أصدرته اللجنة الطبية، وأشارت خوري خلال الجلسة إلى وجود ثغرات فيه. ف “اللجنة الطبية لم ترسل ملف إيلا الكامل إلى الخبراء الأجانب الذين أبدوا رأيهم بحالة إيلا”. ولفتت خوري إلى أن الجامعة الأميركية أعادت إرسال الملف الكامل إلى الخبراء أنفسهم فخرجوا بنتيجة مختلفة عن النتيجة الأولى. كما أبدت خوري تمسكها بالدفاع عن الطبيبة ر. ش. المتهمة بجنحة الإيذاء غير المقصود، وهي التي أشرفت على العناية بإيلا عندما وصلت إلى مستشفى الجامعة.

في هذا الصدد، أوضح النقيب أبو شرف أنه يتم عادةً إرسال ملخص عن الملف الطبي، وبخاصة في حالة إيلا حيث أن ملفها يتعدى 600 صفحة. وأكد بأن اللجنة أخذت آراء الأطباء الأجانب وكل المعلومات المتعلقة بحالة إيلا وقد أظهرناها في التقرير. هنا أبرزت الطبيبة خوري بريداً الكترونياً من طبيبة أجنبية تبدي رأيها بحالة إيلا، معتبرة أن رأيها لا يتوافق مع نتيجة التقرير، فأجاب أبو شرف أن “هذا الرأي تم أخذه بعين الاعتبار، وأنه بأية حال لا يغير النتيجة التي توصلنا اليها”.

أمام هذه الوقائع، انفعّلت والدة إيلا وحملت ابنتها ووضعتها على مكتب القاضي تقي الدين، وقالت للحاضرين “أنظروا هذه هي إيلا”. من ثم رفعت الكيس وأخرجت منه أطرافها الاصطناعية وقالت “هاتان قدماّ إيلا، هل سيتمكن أي حكم قضائي أن يعيد قدميها أو يديها إليها؟” وطلبت منهم أن ينظروا بعين الإنسانية إلى ما تعانيه طفلة كانت على مشارف الموت قبل ثلاث سنوات ونصف.

أبدى القاضي تقي الدين اعتراضه على ما فعلت وإن أبدى تفهمه لمعاناتها، وأشار إلى أن “القاضي لا يجب أن يتعاطف أمام هذا المشهد ولكني لست قادراً ألا أتعاطف”، ومن ثم لوّح باحتمال تنحيه عن الملف”. فأجابته الأم، أنا أرى هذا المشهد كل يوم، وما عدت أحتمل الانتظار. ولفتت إلى أنها متمسكة باتهام طبيب مستشفى المعونات الذي تعتبره المسبب الرئيسي بتدهور وضع ابنتها، وسألت: هل ستبلغ إيلا سن الرشد قبل أن يحكم القضاء حكمه؟

حاول القاضي تقي الدين أن يهدئ من روع الأم، ويذكرها بأنها محامية أيضاً وزميلة بالمهنة، وعليها أن تتفهم واجب المحامي بالدفاع عن موكله، فأجابت “أنا لست محامية هنا أنا أم مجروحة”.

عندها لفت القاضي تقي الدين إلى أنه منذ أن استلم ملف إيلا وهو يسير به بالمسار الصحيح ولا يتأخر، وقد واجه انتقادات عدة بسبب سرعة تعيين الجلسات، وهذا ما وافقت عليه الوالدة.

ولفت القاضي إلى أن الملف تأخر في التحقيق وليس عنده. وهو يقصد بذلك، تأخر الملف عند قاضي التحقيق القاضي جورج رزق الذي أصدر قراره الظني بعد مرور أكثر من سنة على ختام التحقيقات في الملف في 12 نيسان 2017. كما أعاد القاضي تقي الدين التذكير بأنه اقترح لأكثر من مرة فكرة الصلح ولم يتم التجاوب معه، وسأل الوالدة ماذا تريد من المحكمة، فأجابت: “أريد أن يصدر الحكم العادل لأرتاح، وأتمكن من إكمال حياتي مع عائلتي”.

عند انتهاء الجلسة، دار نقاش بين الوالدة والطبيبة المكلفة من مستشفى الجامعة الأميركية، وأكدت الطبيبة للأم بأن التقرير ليس مكتملاً وقد ظلم الطبيبة ر.ش. ولفتت إلى أنها متمسكة بالدفاع عنها. فكان رد الأم بأنها لا تريد الظلم لأحد، لكن لا ترى بالإعلان عن تقرير جديد في هذا الوقت إلا سبباً للمماطلة. وعليه أشارت إلى أنه “إذا كان لديكم أية معطيات كان من المفترض إبرازها عند قاضي التحقيق”.

 ولفتت والدة أيلا إلى أن مستشفى المعونات تقصّدت المماطلة أيضاً، عندما قامت من قبل باستئناف قرار غير قابل للاستئناف. وكانت محكمة الاستئناف أصدرت قرارا سابقا بتغريم المستشفى بسبب إساءة استعمال حق الاستئناف، وهذا ما فعلته محكمة التمييز أيضا.

من جهته، اعتبر وكيل العائلة المحامي نادر الشافي أن التلويح بوجود تقرير آخر من قبل مستشفى الجامعة الأميركية لا يهدف إلا للمماطلة. وشدد على تمسكه بتقرير اللجنة الطبية المكلفة من القضاء. وقد رد القاضي تقي الدين على كلام الشافي معتبراً، بأنه يعود له التصرف في حال حصول مماطلة، مشدداً على أن الملف يسير بشكل عادل، وأن الجلسات لا تتأخر على الرغم من أنه تعرض للإنتقاد بسبب سرعة البت بملف أيلا فيما تتأخر ملفات أخرى. كما لفت القاضي تقي الدين إلى أنه “يجدر الأخذ بعين الاعتبار بأنه لو حصل أي دعوى تزوير ضد الأطباء، عندها سيتأخر الملف أكثر إلى حين الانتهاء من دعوى التزوير”.

أرجئت الجلسة إلى ما بعد العطلة القضائية لتنعقد بتاريخ 6 تشرين الثاني 2018، لإمهال مستشفى الجامعة الأميركية ترجمة التقرير الذي كشفت عنه الطبيبة خوري، ولأجل البت بلائحة طلبات.